قبل أن تتحول حرب غزة إلى سبام
من مسؤولية وسائل الإعلام إيصال صور المآسي التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة إلى المشاهد. لكن من مسؤوليتها أيضا أن توضع الصورة والخبر والتحليل في سياق موضوعي بعيدا عن التهليل مرة والتهويل مرة أخرى
تستطيع قناة الجزيرة أن تفوز بجائزة “أغرب نشرة أخبار” لو كانت هناك مسابقة من هذا النوع. النشرة المرشحة هي النشرة المسائية التي تزامنت مع ساعة افتتاح أولمبياد باريس. فمن باب الفضول، تركت الهاتف على البث التدفقي للقناة عبر يوتيوب، رغبة مني في معرفة كيف ستقوم القناة بالجمع بين خبر الافتتاح وبصرياته المختلفة التي تستقطب المليارات من المشاهدين في العالم، وخبر من فئة المفضل لديها وهو خبر عمليات التخريب التي أصابت شبكة القطارات السريعة في فرنسا قبل ساعات من افتتاح الأولمبياد. أقول المفضل لأن الجزيرة لا تجد حرجا في التركيز على ما يحدث في العالم من خراب. الإيجابية، آخر ما يهم القائمين عليها. بقي التلفزيون أمامي ينقل افتتاح الأولمبياد والهاتف ينقل ما تبثه الجزيرة. خيبت القناة ظني.
جاء الأغرب غير متوقع. كان متمثلا في الباقة الأولى من أخبار القناة في تلك الساعة. فحتى تخريب شبكة السكك الحديد السريعة في فرنسا، وما ينتج عنه من تعثر في حفل الافتتاح في باريس لم يكن كافيا لتغيير إيقاع القناة. كان الخبر الأول لا خبر عمليا، بل فيديو من الفيديوهات المعتادة لكتائب القسام في غزة، لكمين داخل منزل في القطاع. الجزء الأول من الفيديو كان لجنود إسرائيليين يمرون من ثقب في جدار، والجزء الثاني لرجل يردد دعاء وهو يعد عبوة ناسفة لكمين آخر من بقايا ألغام قديمة. استمر المذيع يتحدث عن الفيديو واستضاف خبيره العسكري المألوف للتعليق على العملية العسكرية التي تبدو في إطار الهجمات التكتيكية اليومية لمقاتلي حماس في مواجهتهم للعمليات الإسرائيلية الراجلة. يفتقد الفيديو إلى أي إثارة أو معلومة أو ما يدل على أنه سيكون نقطة فاصلة في مسار الحرب. استمر الحديث بين مقدم البرنامج والضيف بضع دقائق، وأوصلنا الخبير العسكري إلى ألغام العلمين من الحرب العالمية الثانية التي لا تزال تنفجر إلى يومنا هذا لتفسير استخدام الألغام في الفيديو. ثم انتقل المشهد إلى مراسل القناة في ساحة من ساحات الحدث في غزة. لم تكن ثمة فائدة من الاستمرار في مشاهدة القناة لأنها بهذا النوع من التغطية تأخذك إلى عالم مختلف من عوالم التعبئة لا تمت إلى الأخبار بصلة.
إقرأ أيضا : هل سنشهد تحول في الموقف الأمريكي من حرب غزة؟
الحدث الفلسطيني بلا أدنى شك هو من أهم شواغل القنوات الإخبارية والصحف والمواقع. لا أحد يستطيع أن يشيح ببصره عما يجري هناك، رغم ما فيه من تعذيب ذاتي للمشاهد أمام الفواجع المتكررة لأطفال ونساء ورجال كل ذنبهم أنهم في الجغرافيا الغلط. لكن بحكم العمل في الإعلام، ينبغي التساؤل: هل نشرة الأخبار أعلاه تنتمي إلى الإعلام أم إلى التعبئة البصرية النفسية، بل إلى نوع رديء من التعبئة؟ حتى بمقاييس الخبر القادم من غزة، يبدو الحدث أكثر من اعتيادي في سياق حرب مستمرة منذ أشهر. وحتى بمقاييس تفضيل الأخبار السيئة الذي تمارسه القناة، كان خبر تعطيل شبكة القطارات أكثر إثارة لمن يحرص على الشماتة بما يحدث في الغرب، مهما كان موقف تلك الدولة الغربية من قضايانا. خبر تخريب شبكة سكك الحديد بدا أكثر إثارة من مشهد المقاتل الفلسطيني الذي يعد قنبلة ليلغم وينسف منزلا (دع عنك مأساوية أن تهدم دارا لفلسطيني لتوقع الأذى بالجنود الإسرائيليين طالما أن الدمار ما ترك مجالا للخيار).
طريقة النظر إلى الموضوع الفلسطيني بهذا الأسلوب تضيع حتى فرص الثأر الإعلامي القطري من فرنسا التي كانت من الدول التي أثارت سياسيا وإعلاميا وعلى مدى سنوات كل ما يعكر صفو مراحل الإعداد لمونديال الدوحة عن وضع العمال وحوادث الوفيات وقضايا الفساد التي سبقت منح قطر فرصة استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم. كان يكفي أن تتم الإشارة إلى غضب الطبيعة على باريس عندما استمرت الأمطار بلا توقف لتنغص على الحاضرين والمشاركين بعضا من حفل الافتتاح، ولتجعل عملية النقل التلفزيوني لمشاهد الحفل “مبتلة” بقطرات من المطر على الكثير من الكاميرات التي زرعت في كل ركن على طول مسار حفل الافتتاح. من يفسر أوجها من حرب غزة بالحديث في الغيبيات، لن يجد حرجا في تفسير أمطار باريس يوم الافتتاح بالغيبيات.
من مسؤولية وسائل الإعلام إيصال صور المآسي التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة إلى المشاهد. لكن من مسؤوليتها أيضا أن توضع الصورة والخبر والتحليل في سياق موضوعي بعيدا عن التهليل مرة والتهويل مرة أخرى. كتاب فلسطينيون موضوعيون صاروا لا يترددون في انتقاد الكثير من التغطيات الإعلامية لفضائيات لا ترتبط فقط بإيران، بل تشمل أيضا قناة مثل الجزيرة. القناة، كما يعلم الجميع، واجهة من واجهات المشروع السياسي القطري المتشابك بمصالحه مع الغرب وإسرائيل وإيران والإخوان. مشروع متشابك إلى درجة أنه صار من الصعب حتى على القائمين عليه أن يقدموا تفسيرا لمشاهد أو مواقف من شاكلة “ماذا يفعل رئيس الموساد في الدوحة؟” و”هل كان للوساطة بين إسرائيل وحماس أن تحدث لولا أن صاحب الوساطة فنان في اللعب على الحبلين؟”.
عندما نشير إلى السياق الموضوعي تصبح توقيتات تناول تفاصيل الحدث الفلسطيني في قلب هذا السياق. لنفترض صفاء النية والقصد وأن توجيها لم يصدر في الدوحة ليؤكد على الحرص على استمرار التهييج الشعبي على مستوى العالم العربي. لكن ثمة خطورة تكمن في أن يتحول كثيرون بانشغالاتهم اليومية ومآسيهم الذاتية (العالم العربي ليس جنة بالأصل) إلى الاهتمام بأشياء أخرى غير الحدث الفلسطيني. ألم نفعل هذا مرات ومرات مع البريد الإلكتروني العارض عندما يزيد عن حده ونحوله إلى ملف “سبام” في برنامج البريد؟ هل تحول الحدث الفلسطيني إلى “سبام” سيكون في صالح القضية؟
عدم تناول الشأن الفلسطيني إعلاميا بشكل موضوعي وفي سياق منطقي هو خطر عليه لا يقل عن خطر استهداف القضية الفلسطينية إسرائيليّا، عسكريّا وسياسيّا. سيبقى بالطبع ما يكفي من الهيجان من قِبَل كثيرين من متابعي الصوت الإعلامي العالي. لكن ماذا يقدم هؤلاء أو يؤخرون في النتيجة؟ حتى من باب التطبيل والتهليل، فإن إعادة بث خبر مقتل جندي إسرائيلي 20 مرة، لن تجعل المجموع الكلي لخسائر الجيش الإسرائيلي في ذلك اليوم يزيد عن ذلك الجندي. لن يتمكن أي محلل عسكري تستضيفه القنوات الفضائية من تغيير الحقائق على الأرض، مهما حاول تعظيم بعضها وتسفيه البعض الآخر. كل ما يحدث هو استنزاف نفسي وفكري لأمة مستنزفة ومرتبكة الخيارات بالأساس.
للأسف نحن الذين أيدينا في الماء البارد، نكتب ونعلق ونهول ونبسط. لكن من حق الذين أيديهم في الزيت المغلي ألّا نتعاطف معهم ونبكي آلامهم فقط، بل علينا أيضا أن نكون موضوعيين في ما نقوله لهم وعنهم.