يتقدم التصعيد في جبهتي غزة ولبنان على المساعي الدبلوماسية. فرغم كل الحديث عن تقدم في مفاوضات الهدنة بين إسرائيل و”حماس”، يصر بنيامين نتنياهو على اجتياح رفح، فيما الانسداد السياسي على جبهة جنوب لبنان لم يتزحزح في ضوء الاستعصاءات التي تقف أمام الورقة الفرنسية والوساطة الأميركية. لا إسرائيل توافق على العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وهو ما يؤكده يومياً قادتها وتهدد بالحرب، في الوقت الذي يرفض فيه “حزب الله” التهدئة قبل وقف إطلاق النار في غزة، ولم يتعاط جدياً مع الورقة الفرنسية معلناً رفضه للمبادرات التي تصب في المصلحة الإسرائيلية.
يتبين أن إمكان التوصل إلى تهدئة تفتح الطريق للحل جنوباً، أو أقله إطلاق التفاوض بعد عودة السكان إلى قراهم، إن كان في لبنان أو شمال فلسطين، غير ناضج قبل أن تتضح وجهة الحرب في غزة. فالعودة على جبهة الجنوب إلى ما قبل طوفان الأقصى باتت مستحيلة، وإن كانت الورقة الفرنسية تأخذ بالاعتبار هذا الجانب وتربطه بمسار الحل الشامل. وإذا كان “حزب الله” يعتبر أن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً سابقاً يشكل انتصاراً لمعركته، لذا هو مستعد لإنهاء العمليات حال وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن إسرائيل أبلغت الوسطاء أنها لن تقبل بذلك وهي ستستمر بحربها على جبهة الجنوب ما لم يتم التوصل إلى اتفاق يوقف نشاط “حزب الله” العسكري. وهي مصرة على تغيير الواقع الحدودي على ما عكسه كلام للقيادة العسكرية للاحتلال نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” قالت فيه إن “إسرائيل تحتاج إلى تكثيف الصراع للتوصل إلى الهدوء. وهناك مخرج واحد هو التصعيد”.
من الواضح أن لا أحد قادر على تسويق حل سريع أو يملك عصا سحرية لإطلاق التفاوض بلا شروط مسبقة. ويبقى القلق الرئيسي في ما ستقدم عليه إسرائيل في غزة أولاً، إن كانت ستقبل بهدنة موقتة أو ستجتاح رفح، وهو أمر يتجاوز كل الوساطات الدبلوماسية، لكن الأخطر يبقى في احتمال تصعيدها ضد لبنان، إذ تتخذ لمعركتها ذرائع تبدأ من التهديد الذي يمثله سلاح “حزب الله” وعملياته المستمرة، ولذلك لا تزال تهدد بحرب قد تشكل مخرجاً لاتفاق دبلوماسي، وإن كانت غير مضمونة النتائج وفق ما تعكسه المواجهات على الحدود. وقد لا تكون الحرب الإسرائيلية التي يُحكى عنها عبارة عن هجوم بري، لكنها قد تكون أكثر خطورة من خلال التدمير عبر الضربات الجوية لفرض معادلة جديدة.
هناك تباعد بين التصعيد الميداني والمسارات الدبلوماسية، فإذا لم تتمكن الوساطات من فتح نافذة لتثبيت التهدئة وإطلاق التفاوض، فستتحول جبهة جنوب لبنان إلى ميدان عمليات واسعة. فالوقائع تثبت أن توسع الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل يتقدم على جهود التهدئة والحل، خصوصاً أن هناك حديثاً عن سيناريوات تصعيد إسرائيلي لعمليات تطال العمق اللبناني يتمثل أبرزها بضرب مواقع متقدمة لـ”حزب الله” لقطع خطوط التواصل مع المنطقة الحدودية، كانت مؤشراتها واضحة بالقصف التدميري والضربات الإسرائيلية الأخيرة لمراكز إمداد خلفية في جبل الريحان وصولاً إلى البقاع الغربي. وترافق ذلك مع غارات مكثفة للطيران الحربي الإسرائيلي على مناطق في العرقوب وتحديداً شبعا وكفرشوبا، وهي مناطق مفتوحة ومهيأة للاختراقات البرية بهدف قطع خطوط الدفاع والإمداد للمقاومة في حال الحرب.
خضعت بنود الورقة الفرنسية للتعديل لكنها لا تزال تصطدم بربط لبنان بجبهة غزة وعدم القدرة على نزع فتيل الحرب، وهي تقضي بوقف العمليات العسكرية للمجموعات المسلحة اللبنانية، مقابل وقف الخروق الإسرائيلية، وتشمل إعادة تموضع لـ”حزب الله” في مناطق انتشاره في الجنوب. وهذه النقطة الأخيرة هي التي خضعت للتعديل، وذلك على الرغم من أنها لا تحدد مسافة لانسحاب الحزب من المنطقة الحدودية، وهي تركت لمرحلة لاحقة أي للتفاوض. ويسجل في الورقة تراجع فرنسي عن الورقة السابقة التي تتقاطع مع المشروع الأميركي وتتحدث عن انسحاب “حزب الله” إلى ما بين 7 و10 كيلومترات، أي فعلياً إلى ما بعد خط الليطاني. ورغم ذلك رفض الحزب التفاوض حول هذه الورقة وربط الأمر كله بوقف النار في القطاع للعودة إلى المرحلة السابقة.
وتتضمن بنود الورقة أيضاً مرحلة ثانية تنص على عودة نازحي المناطق الحدودية إلى قراهم في لبنان، بالتزامن مع عودة المستوطنين إلى شمال إسرائيل. وفي المرحلة الثالثة يبدأ التفاوض حول الحدود البرية لحل النزاع حول 13 نقطة متنازعاً عليها بما فيها تلال كفرشوبا، مستثنية مزارع شبعا المحتلة مع الجولان السوري عام 1967، وصولاً إلى تطبيق القرار 1701 وانتشار الجيش اللبناني على طول الشريط بين لبنان وإسرائيل.
تبدو الورقة الفرنسية غير قابلة للتنفيذ، ليس بسبب موقف “حزب الله” والسقوف الإسرائيلية المرتفعة حولها، بل لأنها لا تستند إلى رافعة قادرة على الضغط مع تغطية إقليمية ودولية، وذلك على الرغم من أن باريس تشارك في القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني (اليونيفيل). لذا كان الرهان قائماً ولا يزال على الوساطة الأميركية للتوصل إلى تسوية تنهي الصراع القائم، فيما جهود فصل لبنان عن غزة مرتبطة بإنجاز الهدنة ووقف إطلاق نار مستدام ينسحب على الجنوب.
لا تختلف ورقة فرنسا عما بحثه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين في لبنان وإسرائيل خلال الشهور الماضية، فهناك تقاطع بين الطرفين، رغم الأولويات الأميركية المختلفة التي تستند في مشروع هوكشتاين إلى التطبيق الكامل للقرار 1701 بما يعني إخلاء المنطقة من أيّ مراكز عسكرية ومظاهر مسلحة خارج إطار الجيش اللبناني. ويركز الأميركيون في وساطتهم التي رفضها “حزب الله” على الشق الأمني والذي يتمثل بإبعاد عناصر الحزب عن الحدود، علماً أن لبنان طالب بتنفيذ القرار 1701 من الجانبين ووقف الاعتداءات على لبنان والخروقات لأجوائه البرية والبحرية والجوية. لذا اصطدمت مهمة هوكشتاين برفض “حزب الله” والشروط الإسرائيلية، وذلك على الرغم من أن الأميركيين لا يزالون يضغطون لمنع إسرائيل من توسيع الحرب على لبنان.
طرحت الجهات الدولية أيضاً خلال جولاتها على لبنان إمكان الدمج بين القرار 1701 واتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل 1949، حيث يستند التفاوض بعد وقف للنار إلى الحدود والنقاط المختلف عليها في الخط الأزرق على ما يحمله القرار الدولي واتفاق الهدنة، بهدف تأمين استقرار مستدام. لكن تطبيق القرار 1701 يصطدم بما قدمه كل طرف من شروط عالية السقف. فإسرائيل حاسمة بعدم العودة إلى ما قبل طوفان الأقصى، وهي تريد توفير الأمن لمستوطنيها الذين يضغطون على حكومتها لضمان عودتهم، وهم يريدون إبعاد “حزب الله” إلى منطقة لا يستطيع فيها تنفيذ عمليات عسكرية. وفي المقابل، يرفض الحزب المنطقة العازلة، وهو لا يقبل بأي بحث في المنطقة قبل وقف المعارك في غزة.
يتبين أن الدمج بين اتفاق الهدنة والقرار 1701 غير واقعي، فالنقطة المتعلقة بمزارع شبعا ستبقى مفتوحة على الصراع كما كانت بعد عام 2000 تاريخ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان. مزارع شبعا احتلت عام 1967، عندما كانت المنطقة خاضعة للسيطرة السورية بموافقة لبنانية. ودفع احتلال الجولان السوري المحاذي للمزارع الأمم المتحدة إلى حسم إدراجها تحت القرار 242، من دون بروز أي موقف لبناني يسمح بإبقاء المنطقة في الخريطة اللبنانية.
ومنذ تحرير القسم الأكبر من الجنوب اللبناني، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، لم يقدم لبنان، ولا يملك، حتى الآن العدة اللازمة والوثائق القانونية الرافعة لتغيير نظرة الأمم المتحدة، واستطراداً المجتمع الدولي من قضية المزارع، وهو أمر لم يكن بارزاً عند التدقيق في خط الانسحاب الإسرائيلي على طول الحدود الجنوبية، إذ يملك لبنان الإثباتات الضرورية والخرائط في شأن خط “بوليه – نيوكامب” عام 1923، وخط الهدنة لعام 1949، ما مكّنه من استعادة ملايين الأمتار المربعة عند وضع “الخط الأزرق” عام 2000، رغم تحفّظه على عدد من النقاط الحدودية.
وأمام الواقع الميداني في جبهة الجنوب لا يبدو أن أحداً من الوسطاء يملك القدرة على إنتاج حل سريع لمنع توسع المواجهات أو الحرب ولا فرض اتفاق دبلوماسي، خصوصاً مع استمرار ربط لبنان بغزة. “حزب الله” لا يتراجع عن مساندة حماس، وإسرائيل ترفض العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر)، فيما الانسداد يعطل إمكان أي تسوية. وهذا الأمر إذا استمر لفترة طويلة، خصوصاً إذا اجتاحت إسرائيل رفح، سيكون لبنان أمام حالة استنزاف خطيرة، يستحيل معها الخروج من هذه الدوامة إلا باتفاق إقليمي ودولي يرسخ حلاً لجبهتي غزة ولبنان معاً. وغير ذلك قد نشهد حروباً متعددة تدفع ثمنها الساحات الأكثر ضعفاً ومنها لبنان بالدرجة الأولى.
ابراهيم حيدر