فيما يموج القارب بربان البيت الأبيض، ينتظره الأسبوع المقبل اختبار آخر، في قمة حلف الناتو للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه. وبعيداً عن روح الاحتفال، سيعبّر عشرات الزعماء عن التزامهم أهداف الحلف ووحدته وتمسكهم بإعادة صوغه في ظل عالم متعدد الأقطاب، وزمن تعصف التحولات في قلبه ومن حوله.
لكن “ما يقلقهم هو ترامب وليس بايدن”. لذلك سيكون على زعماء الحلف الاستعداد لمجيء رئيس أميركي “يزدري الحلف” “ويوجه الإهانات للقادة الغربيين، ويثني على بوتين”.
في وقت ينفي فيه البيت الأبيض أي نية لتقليص جدول اجتماعات الرئيس، من حفل الاستقبال، وعشاء الأربعاء والجلسات الفردية، ستكون هذه القمة مناسبة لتقييم أداء بايدن وقدراته. ذلك أنه من المفترض أن يبرز الاجتماع الزعامة العالمية لبايدن، قبل أقل من أسبوع من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري. لكن تعثر بايدن يثير قدراً كبيراً من عدم اليقين!
في لحظة بهذه الحراجة والدقة، وفي مؤتمرات من هذا العيار، تتطلب الحال أن يعكس بايدن زعامته الدولية وأن يثبت قدرته على التنقل بين خيوط تلك الشبكة المعقدة من التفاعلات، مع 40 رئيساً وحاشيتهم، في دوامة من الاجتماعات الفردية والجماعية المعقدة.
ويبدو أن الشهادات السابقة لقادة الناتو، لم تعد كافية بعد “الليلة السيئة” لبايدن. فهل سيكتشف زعماء الأطلسي مبالغة الإعلام الأميركي في تقييم الرئيس أم أنهم سينتهون إلى الإقرار بها؟
سيترقب العالم، من جهته، لغة التصريحات والبيانات وتبدلات جدول الأعمال، فضلاً عن وحدة التحالف كحلف للديموقراطيات الليبرالية في مواجهة تحالف دول النموذج البديل، ألا وهو نموذج رأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة (الأوليغارشية).
سيترتب عليه إضافة إلى ذلك اتحاذ المزيد من التدابير لتقاسم الأعباء، والتحديث التقني والصناعي والتركيز عملياً على دعم أوكرانيا وضمان مسارها نحو عضوية حلف شمال الأطلسي.
لكن فيما سيظهر البيت الأبيض على نجاحات الناتو خلال ولاية بايدن، من استعادة الوحدة، إلى دعم أوكرانيا، وضم السويد وفنلندا، ينخرط الدبلوماسيون الغربيون في واشنطن في فتح العلاقات مع المسؤولين المحتملين عن السياسة الخارجية لترامب. إنهم يحتاجون لفهم كم من كلامه الشعبوي يمكن أن يتحول لحقيقة فعلية.
ويبقى الدرس التاريخي الأهم لهذا المشهد أن لا شيء يوحد أوروبا مثل الخطر! فعند تأسيس الحلف عام 1941 كان الأمر يتطلب معجزة كي ينجح الحلف في تحقيق أهداف تأسيسه بعدما كان هتلر قد فرغ من غزو أوروبا واتجه نحو الجبهة الروسية بسرعة.
ثم، ما لبثت أن تلت ذلك صفعة من ستالين في خطابه الصادم بعيد العمال معلناً الحرب على الإمبريالية عام 1946، لتصحو أوروبا من أوهام السلام الخادعة. الآن يكرر بوتين السيرة ذاتها.
ومع تقدم هذه الحرب، واحتمال صعود ترامب وتراجع الدور الأميركي ضد روسيا، تدرك أوروبا يوماً بعد يوم، أن عليها أن تحك ظهرها بيدها، وتدرك حاجتها إلى تحديد الأضرار وتطوير قدراتها الذاتية.
إنها استراتيجية الفطام، وليس القطيعة مع الولايات المتحدة، إذ تحيي هذه الاستراتيجية سياسة التحالفات الأوروبية في القرن التاسع عشر، وتعتمد ركائز عدة تعمل تحت خيمة الحلف: أولاها، إطلاق العنان لاسترجاع الصناعات الحربية الحيوية الأوروبية التي أهملت طويلاً، وفتح الأبواب واسعة أمام تشكيل تحالفات أطلسية للإنتاج المشترك، سواء في مجال الطيران أم الصواريخ أم المسيرات الخ. ثانيتها، تطوير المقدرات التقنية والمعلوماتية والاستخبارية الأوروبية تحت مظلة الحلف. وثالثتها، البدء في تشكيل تحالفات سياسية عسكرية ثانوية من تحت خيمة الحلف. ويتجلى ذلك عبر الاتفاقات العسكرية المتكاثرة بين دول الحلف. إذ تتبرعم اتفاقيات عسكرية موسعة واتفاقيات دفاع مشترك بين الدول الإسكندنافية أو بين دول البلقان ودول البحر الأسود وأوكرانيا، من جهة، وبين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، من جهة أخرى، لتظهر أمامنا منظومة حصون أطلسية ثانوية موزعة على طول خطوط التماس. ورابعتها، التكيف الجماعي مع تحديات التقنيات السيبرانية والتحالف في مواجهة الأخطار الكونية (البيئة والأمراض الخ).
لا تقتصر أبعاد هذه التحولات في سياسة الحلف على أوروبا ذاتها، بل تمتد نحو الشرق الأوسط والمحيطين الهندي والهادئ والمضائق البحرية، وبخاصة في ما يتعلق بحماية طرق الإمداد البحرية والبنية التحتية البحرية لأنظمة الاتصال والبيئة.
شكل نجاح الحلف في التوافق على البديل المقبل للأمين العام ستولتنبرغ والمجيء بالمقاتل الأطلسي العنيد مارك روته، مؤشراً إلى نية أعضاء الحلف الانتقال بسرعة إلى العمل.
لكن، في مناخ من الصعوبات والتقلبات التي تجابه الاقتصادات الأوروبية، يجد قطاع الأعمال صعوبات كبيرة في العمل نتيجة الحواجز التجارية المتزايدة والعقوبات المختلفة على دول المنافسة مثل روسيا والصين وإيران. ويتطلب العمل في أسواق أكثر ضيقاً وأكثر منافسة، أن تتمتع الشركات وقطاع الأعمال بأكبر قدر من الرشاقة والمرونة.
سيكون التحدي الأهم والأكبر للحلف هو إعادة إنتاج الأساس الاقتصادي-السياسي لتحالفاته، إذ سيترتب عليه تأسيس منظومة اقتصادية سياسية موازية لمنظومة بريتون-وودز للتجارة العالمية، التي يتم إضعافها بسبب الحواجز الاقتصادية التي تطبقها الدول ضد بعضها بعضاً بتَنامٍ.
وتتطلع دول الحلف إلى إعادة إطلاق مشروع للنمو الاقتصادي بما يشبه “مشروع مارشال” لدعم اقتصادات الدول الأقل تطوراً وتشجيع القطاع الخاص على قيادة النمو. لا يعني ذلك بالضرورة الاعتماد على دور متفرد أميركي في إعادة ترتيب الأوضاع الأوروبية. فرغم مركزية الاقتصاد الأميركي في أي مشروع تنموي أطلسي كبير، صار الاقتصاد الأوروبي أكثر ندية ومنافسة.
في هذه المياه الجيوسياسية المضطربة، تنعقد القمة التاريخية للحلف. وثمة مؤشرات يمكن تتبعها في هذا المؤتمر إلى ما ستقوم به الإدارة الأميركية لطمأنة الحلفاء إلى استمرارية الالتزام الأميركي. وفيما تتخذ العديد من مؤسسات الدولة الأميركية، وبخاصة المؤسسة العسكرية والاستراتيجية، التدابير لضمان استمرارية هذا الالتزام مهما كانت الظروف، فثمة قلق بائن بين الحلفاء الذين يعانون، هم ذاتهم، عواصف يمينية داخلية. سيكون من المفيد أيضاً تتبع حضور المسؤولين الأميركيين الآخرين وسلوكهم، مثل بعض المرشحين المحتملين للحلول مكان بايدن، وعلى رأسهم كامالا هاريس أو حاكم ولاية كاليفورنيا.
وإذ يجتمع الحلف في لحظة غاية في التعقيد والقلق، تكاد تصل إلى حد الفوضى، يبدو أن “التاريخ”، هذا المعلم الكبير، يخطط لأن يعلمنا دروساً جديدة وعميقة!