تونس

في تونس عندما ينزل المطر ينخفض مستوى السدود

لجميع تعوّد على فترات من الجفاف لا تتجاوز الثلاث سنوات تتبعها فترات ممطرة. لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو أن فترات انحباس المطر طالت كثيرا وفاتت الخمس سنوات

لما تسأل بائع الصناعات التقليدية في متاجر المدينة العتيقة للعاصمة التونسية عن حال السوق هذه الأيام يجيبك برفع ناظريه إلى السماء والتضرع بالقول “الله يرحمنا”.

يشارك هذا التاجر معظم التونسيين توقهم منذ بداية فصل الخريف لرؤية المطر ينزل بغزارة حتى ينقذ البلاد والعباد من سنوات الجفاف.

السبب البديهي هو أن للمطر انعكاسا مباشرا على القطاع الزراعي الذي يوفر حوالي 10 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي ويشغل 14 في المئة تقريبا من اليد العاملة في تونس. كما يعد القطاع الزراعي محركا رئيسيا للدورة الاقتصادية وشرطا أساسيا لتحقيق نسبة نمو محترمة كل عام.

وللمطر مفعول أعمق من ذلك على التونسيين. إذ يبقى نزول المطر أو انحباسه عاملا محددا لارتفاع مستوى التفاؤل أو انحساره لدى عامة الناس حتى لو لم تكن لهم أيّ علاقة بالزراعة.

تعوّد الجميع على فترات من الجفاف لا تتجاوز الثلاث سنوات تتبعها فترات ممطرة. لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو أن فترات انحباس المطر طالت كثيرا وفاتت الخمس سنوات مما جعل القلق يسيطر على المشاعر.

وقد أظهر استطلاع رأي للأفروبارومتر في مطلع هذا العام أن 77 في المئة من التونسيين هذا العام قالوا إنهم شعروا بحدة الجفاف بالمقارنة مع 45 فقط في المئة سنة 2018.

تدريجيا أصبح المطر قضية وطنية. وأضحى المتفرجون يتابعون باهتمام خاص “النشرة الجوية” التي تلي الأخبار المسائية. كما هم يطالعون المواقع المتخصصة على منصة فيسبوك حيث يتنافس خبراء الأرصاد الجوية على إطلاع التونسيين على سير “المنخفضات الجوية” خاصة منها تلك القادمة من الشمال. بل هم يحللون مختلف السيناريوهات المحتملة.

لا يتوقف البعض منهم عند “تبشير” التونسيين بتوقعات يقولون إنها ثابتة لنزول المطر ويدعوهم آخرون للاستعداد “للخير القادم” بإخراج معاطفهم ومطرياتهم من رفوفها.

وعندما تنزل الأمطار تعج المنصات الإلكترونية – كما كان الحال خلال الأيام الأخيرة – بالصور والفيديوهات التي تظهر الآثار المترتبة على نزولها خاصة في المدن حيث لا تزال معظم السلطات المحلية عاجزة عن إيجاد حلول للبالوعات المختنقة ولغرق الشوارع التي تتحول في وقت وجيز إلى مسابح.

أما في الريف فلا يبدو أن التشكي من نزول الأمطار ولو كانت طوفانية من شيم الناس. الكل يحمد الله على الغيث النافع ويطلب المزيد، حتى إن شكّل سيلان الأودية خطرا حقيقيا على سلامة السكان.

مع نزول الأمطار بعد سنوات الجفاف يتكرر على ألسن الجميع السؤال عن منسوب المياه المتجمعة في السدود بوصفها مصدرا رئيسيا للري ومياه الشرب. لكن الإجابة هذه الأيام كانت مخيبة للآمال. إذ يأبى هذا المنسوب أن يرتفع. بل هو يواصل النزول في مفارقة لا يفهمها معظم التونسيين. وقد بلغ حاليا أقل من 21 في المئة من طاقة الامتلاء القصوى للسدود، وهو مستوى نادرا ما بلغته.

السبب في هذه المفارقة هو الفوضى التي أدخلها التغيّر المناخي على “خارطة المطر”. يقول الخبراء إن الأمطار أضحت تنزل بغزارة في مناطق الجنوب والوسط والشمال الشرقي حيث ليست هناك سدود. بالإضافة إلى ذلك كثيرا ما تبتلع التربة العطشى نتيجة الجفاف مياه الأمطار قبل أن تسيل في الأودية أو هي تتبخر في السدود بفعل الارتفاع النسبي لدرجات الحرارة.

إقرأ أيضا : إردوغان وغولن… صراع الدولة والجماعة

انجرّ عن شح المياه خلال العامين الأخيرين فرض إجراءات لتقسيط أو قطع توزيع المياه. لم يتعود الناس على هذه الإجراءات ولم يظهروا البتة استعدادا للتعود عليها في المستقبل خاصة وأنه بدا لهم أنها لا تشمل كل المناطق بنفس القدر لذلك ما انفك اضطراب التوزيع يثير الاحتجاجات خاصة في الأرياف. الكل يطالب السلطات بتفادي هذه الانقطاعات.

ما زاد الطين بلة هو أن الانقطاعات لم ترافقها إلى حد الآن معالجة جذرية لظاهرة ثانية هي ظاهرة تواصل إهدار الموارد المائية بسبب تقادم واهتراء شبكات توزيع المياه وتدهور نوعية الماء الذي ينزل من الصنابير بما يجعل أقلية فقط من سكان المناطق الحضرية مستعدين لشربه.

رداءة مياه الشرب التي توفرها الشركة الحكومية لتوزيع المياه عبر أنابيبها خلقت سلوكيات جديدة في المدن حيث أصبحت أغلبية السكان تعتمد على اقتناء زجاجات الماء المعدني عوضا عن ماء الصنابير وجعل تونس تحتل مرتبة متقدمة بين مختلف الدول في العالم من حيث استهلاك الماء المعلب. وذلك أوحى لأحد المترشحين لرئاسة الجمهورية بأن يقترح ضمن برنامجه الانتخابي تأميم شركات إنتاج الماء المعدني بوصفها تزود السوق بمنتوج “إستراتيجي”.

رغم كل شيء يبدو التونسي اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أكثر انتباها لأهمية الماء في حياته. لكن هذا لا يعني أنه أكثر استعدادا للقبول برحابة صدر بإجراءات التقشف في استهلاك الماء، أو بارتفاع أسعار المواد الفلاحية الناتج عن ذلك. فالتونسي تعود منذ الاستقلال على وفرة الماء ولم يستوعب بعد مفهوم الإجهاد المائي.

مازال التونسي في حاجة إلى فهم أفضل لعلاقة شح المياه بظاهرة الانحباس الحراري حتى لا يصب جام غضبه على شبكة توزيع المياه عندما يجف الصنبور فجأة ولو لساعات قليلة. بل إن استطلاع الأفروبارومتر أظهر أن 37 في المئة فقط من التونسيين يعرفون معنى مصطلح التغيّر المناخي.

ورغم التنبؤات المتشائمة لعلماء المناخ لن يتوقف التونسي أبدا عن انتظار نزول المطر، فهو الذي يعطي تونس خضرتها ويمنح مواطنيها زادهم من الأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى