ليس سرّا أن الحكومة اليمينيّة الإسرائيلية تستغل أحداث المنطقة من أجل الإمساك بالضفّة الغربيّة وتكريس الاحتلال لما تسميه يهودا والسامرة. عندما سئل اسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يُعتبر بنيامين نتنياهو من تلامذته النجباء، في مؤتمر مدريد الذي انعقد في خريف العام 1991، عن صيغة الأرض في مقابل السلام، كان جوابه وضحا. قال شامير وقتذاك إن إسرائيل ستفاوض لسنوات طويلة وستعمل في أثناء المفاوضات على “خلق واقع جديد على الأرض”.
هذا الواقع هو الاحتلال الذي آمن به اليمين الإسرائيلي مع تركيز خاص على الضفّة الغربيّة والقدس الشرقية.
للمناسبة، كان نتنياهو الناطق الرسمي باسم الوفد الإسرائيلي في مؤتمر مدريد. لم يخف في أي لحظة دفاعه عن فكرة تكريس الاحتلال المستمر منذ العام 1967 بالاعتماد على مرور الوقت. كانت حجته الدائمة، ولا تزال، تقوم على ضرورة الحؤول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة. المؤسف أن تصرفات “حماس” وسلوكها منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، صيف 2005، صبّ في خدمة المشروع الإسرائيلي. مرّة أخرى، تركّز إسرائيل على الضفة الغربية، انطلاقا من مخيم جنين، بعدما فرغت من تدمير غزّة بوحشية ليس بعدها وحشية.
اقرأ أيضا.. معاملة الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين: الفجوة الأخلاقية بين الاحتلال والمقاومة
بغض النظر عن كلّ الشعارات التي أطلقت وكلّ العراضات التي قامت بها “حماس” في غزّة، استطاعت إسرائيل تدمير القطاع وتحويله أرضا طاردة لأهلها نتيجة حرب استمرت 15 شهرا. بدأت الحرب، التي وقف العالم يتفرّج عليها، إثر هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته الحركة بقيادة يحيى السنوار الذي ما لبث أن سقط ضحية عمل أقدم عليه غيّر طبيعة المنطقة كلّها.
لم يكن من هدف لليمين الإسرائيلي في يوم من الأيّام غير قطع الطريق على خيار الدولتين. ليس خلق واقع جديد في الضفة الغربيّة سوى الطريق الأقصر لتحقيق هذا الهدف. الأكيد أن حكومة بنيامين نتنياهو، التي تجد من يزايد عليها ويعتبرها متخاذلة، خصوصا في ضوء التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة، ترى في الحملة التي تشنها في الضفة الغربيّة فرصة للهروب إلى الأمام. هناك بالنسبة إلى الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفا في تاريخ الدولة العبريّة فرصة لا يمكن تفويتها لتغيير الواقع في الضفّة الغربية. يقيم في الضفّة ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني وتشكل نواة لقيام دولة فلسطينيّة مستقلة.
لا بديل عن الدولة الفلسطينيّة، بشروط معيّنة في طبيعة الحال تمنع تكرار “طوفان الأقصى”… هذا في حال كان مطلوبا تحقيق استقرار في الشرق الأوسط بعيدا عن المنافسة بين التطرف الإيراني وأذرعه المختلفة من جهة والتطرف الإسرائيلي من جهة أخرى.
من المفيد التوقف عند نقطتين. الأولى تتعلّق بالنيات الإسرائيلية والأخرى بالإدارة الأميركية الجديدة – القديمة التي على رأسها دونالد ترامب. بالنسبة إلى النيات الإسرائيلية، ليس خافيا أن إسرائيل سعت دائما إلى التخلص من غزّة بأي طريقة من الطرق. لدى حصول الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في 2005، فيما كان أرييل شارون رئيسا للوزراء، قال مدير مكتب شارون دوف فايسغلاس لصحيفة “هآرتس” ما معناه أنّ الهدف من الانسحاب من غزّة هو الإمساك بطريقة أفضل بالضفّة الغربية، أي سيسمح لها ذلك بالتفرّغ للضفة والاستيطان فيها. لا يهم إسرائيل سوى الضفّة. لذلك هناك عودة إليها هذه المرة بعد التخلص من غزة نتيجة فشل الانسحاب منها.
بالنسبة إلى الإدارة الأميركيّة، ثمة أسئلة كثيرة ستفرض نفسها. في مقدّم الأسئلة هل تبحث إدارة ترامب عن استقرار في المنطقة في وقت بات واضحا أن الحملة التي تشنها إسرائيل تستهدف تكرار تجربة غزّة وتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين منها؟ هل تدرك الإدارة ما على المحكّ في الضفة على صعيد الاستقرار في المنطقة كلّها، من المحيط إلى الخليج؟
في النهاية، هل تريد الإدارة الأميركية توسيع رقعة السلام بين العرب وإسرائيل، علما أنها تعرف معرفة جيدة أنّ المملكة العربيّة السعودية لا يمكن أن تقدم على أي خطوة في اتجاه التطبيع مع الدولة العبرية من دون عمليّة سياسيّة تصب في اتجاه قيام دولة فلسطينيّة؟
أكثر من ذلك، إن الدول العربيّة التي تربطها علاقات بإسرائيل تجد أن سياسة الحكومة الحالية التي على رأسها “بيبي” تسبّب لها إحراجا شديدا. لا يمكن الاتكال باستمرار على أنّ “حماس” تسعى يوميا إلى توفير المبررات التي تسمح بالاعتداء على مخيم جنين. ثمة حاجة أكثر من أي وقت لحكومة إسرائيلية مختلفة تمتلك مشروع سلام ورؤية مختلفة للمنطقة بعيدا عن فرض أمر واقع اسمه الاحتلال من جهة ورفض وجود شعب فلسطيني من جهة أخرى.
الأهمّ من ذلك كلّه أن اليمين الإسرائيلي لا يبدو مهتمّا بأن الهجمة على الضفة الغربيّة تؤذي المملكة الأردنية الهاشمية التي تعرّضت منذ سنوات طويلة لاستهداف إيراني في سياق مشروع توسّعي لم يعد خافيا على أحد. من يسيء إلى الأردن لا يستطيع الادعاء أنّه يحارب إيران وأذرعها في المنطقة بمقدار ما يرتكب خطأ الاعتماد على “حماس” مجدّدا من أجل الحؤول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة. لم يؤد الاعتماد على “حماس” وعلى تكريس الانقسام الفلسطيني سوى إلى “طوفان الأقصى” والحروب التي كان مدخلا لها.
عاجلا أم آجلا، سيترتب على إدارة ترامب الاختيار بين الاستسلام لإسرائيل أو الرضوخ لمشيئة اليمين المتطرف فيها. لا منطق لأي استسلام أمام اليمين الإسرائيلي، بل ربّما هناك منطق وحيد. يتمثل هذا المنطق في انضمام أميركا إلى حلف المتطرفين في المنطقة، أي إلى “جبهة الممانعة”. أكان ذلك في إسرائيل أو في أميركا، كل من يقف في وجه الدولة الفلسطينية التي نادى بها الملك عبدالله الثاني باكرا، منذ ما قبل الذهاب إلى الكونغرس من أجل هذا الغرض في العام 2007، إنما هو عضو في “جبهة الممانعة” التي يرفض اليمين الإسرائيلي الاعتراف بأنّها لم تعد تخدم أهدافه!