بحلول الثالث من ديسمبر 2024 يكون قد مرّت تسعون عاما على إطلاق اسم ليبيا على المساحة الجغرافية المعروفة اليوم بنفس الاسم، واعتماده رسميا لأول مرة كهوية للمكون السياسي الذي بات يشمل الأقاليم التاريخية الثلاثة: طرابلس وبرقة وفزان.
في 3 ديسمبر من عام 1934، صدر من العاصمة الإيطالية روما المرسوم الملكي التشريعي رقم 2012 القاضي بأن تحمل المستعمرات الواقعة في شمال أفريقيا رسميا اسم ليبيا، لتصبح بذلك مستعمرة واحدة مقرّها الرئيسي طرابلس، تُوحّد من الناحية الإدارية إقليمي طرابلس وبرقة اللذين كانا يعتبران سابقا مفرزتين إيطاليتين منفردتين.
عندما وصل إيتالو بالبو، حاكم طرابلس وبرقة الجديد في يناير 1934، بدأت تتكشف متغيرات جديدة حول موضوع إدارة المستعمرة، مثل قضايا التعاون والتكامل بين السكان المحليين والمستوطنين الإيطاليين، وبينهم وبين “الوطن الأمّ إيطاليا”. وذلك بعد عامين من تحقيق الاستعمار الفاشستي هدفه الأساسي بسحق المقاومة الليبية في برقة على يد غراتسياني في عام 1932، ولاسيما بعد أن تم في سبتمبر 1931 إعدام أسد الصحراء الشيخ عمر المختار الذي كان من باب المفارقات أنه لم يسمع اسم ليبيا ولم ينطقه على لسانه طوال حياته.
يعود أصل التسمية إلى الصيغة الإغريقية للاسم الذي أطلقه المستوطنون الإغريق على المنطقة الواقعة من غربي وادي النيل إلى ساحل الأطلسي، والذي كان بحسب الأساطير اسما لزوجة الإله بوسيدون إله البحار، ولكنه مأخوذ في الحقيقة من اسم قبيلة “ليبو” المذكورة في المصادر المصرية والتي كانت تقيم في منطقة برقة، ثم أطلق اليونانيون والكتّاب القدماء هذه التسمية على شمال القارة الأفريقية.
يمكن القول إن بالبو قام بدور كبير في تكريس كيان الدولة الليبية بشكلها الذي نعرفه اليوم، حيث قام باختيار يوم ذكرى الدستور في الأول من يونيو 1934 لتقديم طلب توحيد الأقاليم الليبية الثلاثة، ليصبح يوم الثالث من ديسمبر موعدا لاعتماد الاسم الموحد، وكذلك اعتماد شعار رسمي لليبيا المستحدثة يشتمل على النخلة التي ترمز لتريبوليتانيا (طرابلس) ورمز نبات السيلفيوم الذي يرمز إلى سيريانكا (برقة) مع شعار الحزب الفاشي الإيطالي في الأعلى.
إقرأ أيضا : ليبيا القذافي مستعادة في أسوأ أحوالها
وبالعودة إلى أصل التسمية، فمن المعروف أن الليبيين أو اللوبيين هم أسلاف الشعوب البربرية (الأمازيغية) التي تمثل السكان الأصليين للمنطقة، وقد تأثروا تأثرا بالغا بالحضارة الكنعانية (الفينيقية) مع وصول الزحف القادم عبر البحر من الساحل الشرقي للمتوسط وذلك لسببين أساسيين هما: أن اللغة الفينيقية كانت أولى اللغات السامية المكتوبة التي تعلّمها اللوبيون في زمن مبكر، واستمدوا عن طريقها كثيرا من عناصر الثقافة الشرقية، والسبب الثاني: يتجلى في كون اللغة الفينيقية تبناها سادة القوم وأعيانهم، بعد امتزاجها باللغة اللوبية فتطورت وصار يطلق عليها اللغة البونية وأصبحت لغة التعامل الرسمية، فاحتوت بذلك على معلومات تاريخية ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى تاريخ الشمال الأفريقي القديم.
اتجه بالبو إلى اتباع سياسة المصالحة مع الليبيين، وحاول توحيد النسيج الاجتماعي للمستعمرة، وكان يعتقد أنه من الممكن إقناع السكان المحليين بأنهم يستطيعون التحول إلى إيطاليين، وهو ما سعى إليه المرسوم الملكي الصادر في 9 يناير من عام 1939، بإقراره ضم محافظات ليبيا الأربع طرابلس ومصراتة وبنغازي ودرنة إلى مملكة إيطاليا. وهم بذلك لم يعودوا رعايا استعماريين، وإنما أصبحوا مواطنين ليبيين – إيطاليين، يحق لهم الانضمام إلى الجيش الإيطالي وتولّي مناصب في الإدارات المحلية وغيرها. حتى إن موسيليني أطلق عليهم اسم “المسلمين الإيطاليين على الشاطئ الرابع لإيطاليا.”
هناك الكثير من الليبيين الذين يعتبرون بالبو شخصية خالدة في تاريخ بلادهم، وكان له دور كبير في تشكيل ملامح دولة ليبيا الحديثة ولو كان ذلك بخلفية استعمارية مقيتة، تكرست بالخصوص مع زيارة موسيليني إلى البلاد في مارس 1937 واستقباله بحفاوة استثنائية، وتسلمه سيف الإسلام، واعتباره خليفة المسلمين، في الوقت الذي كان فيه أغلب المقاومين قد قضوا في المعارك أو في المعتقلات أو أجبروا على مغادرة البلاد إلى دول الجوار.
قبل 90 عاما ظهر للوجود اسم ليبيا، وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، لعبت هيئة الأمم المتحدة دورا مهما في استقلال البلاد من خلال قرارها الصادر في 21 نوفمبر 1949 والذي أوصت فيه بمنح ليبيا استقلالها في موعد أقصاه نهاية ديسمبر 1951. ومن هناك أسندت مهمة تنفيذ القرار المذكور إلى الدبلوماسي الهولندي أدريان بيلت يساعده مجلس من عشرة أشخاص مكون من بعض الدول والأعضاء وممثل لكل من الأقاليم الليبية الثلاثة برقة وطرابلس وفزان وممثل عن الأقليات، وتم تكوين لجنة الـ21 ثم الجمعية الوطنية التأسيسية التي وضعت الدستور وأقرّت شكل الدولة الليبية وبايعت الملك إدريس السنوسي أول ملك على البلاد وصولا إلى إعلان الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر من العام 1951.
اللافت أن رجلا آخر غير ليبي كان له موقف مؤثر في تاريخ ليبيا المعاصر، وهو مندوب هايتي إميل سان لو الذي خالف أوامر حكومته، وصوّت ضد مشروع خطة وضعها وزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا ووزير خارجية بريطانيا إرنست بفين يقضي بأن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات، وفي الأثناء توضع أقاليم طرابلس وبرقة وفزان تحت وصاية دولية، حيث تتولى بريطانيا الوصاية على برقة، وتتولى إيطاليا الوصاية على طرابلس، وتتولى فرنسا الوصاية على فزان، وتم عرض المشروع على الأمم المتحدة للتصويت عليه أمام الجمعية العامة في 17 مايو 1949، لكن تمريره كان يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين وعددهم 58 دولة، وقد نجح أحد أعضاء الوفد الليبي برئاسة الدكتور علي نورالدين العنيزي في كسب تأييد ممثل دولة هايتي إميل سان لو الذي صوت ضد المشروع فأسقطه ليتم من وراء ذلك تشكيل وضع مختلف لليبيا.
وإذا كان الملك إدريس السنوسي وراء التأسيس العملي للمملكة الليبية المتحدة التي أعلن رسميا عن استقلالها في 24 ديسمبر 1951، وتمتين روابط الوحدة بالاستغناء عن النظام الفيدرالي على إثر التعديلات الدستورية للعام 1963، فإنه يحسب لمعمر القذافي تكريسه لبنية الدولة الليبية الواحدة الموحدة بسلطتها المركزية المؤمّنة لسيادتها طيلة 42 عاما، قبل أن تتحول البلاد إلى ساحة للفوضى ومحط أطماع للقوى الداخلية والخارجية التي تدرك حساسية التاريخ وتسعى للّعب على حباله دون خوف مما قد يطال الوضع القائم من انقسام لا يخدم مصالح الشعب الليبي.
قبل 90 عاما من الآن، لم تكن هناك ليبيا التي نعرفها الآن، ولكن الثابت اليوم أن الليبيين يستطيعون بالفعل تأكيد جدارتهم بوطنهم الرائع والجميل عبر الدفاع عنه والإطاحة بمن يتآمرون عليه وينهبون ثرواته ويعبثون بحاضره ومستقبله.