عندما اجتاحت الفوضى الرقمية العالم لساعات، كانت علامات الاستفهام والتعجب تفوق بمراحل الإجابات المقنعة والشافية، وبدا شلل المطارات والمستشفيات والشركات وتوقف البث التليفزيوني وغيرها من المرافق الحيوية لغزًا محيرًا يستعصى على الاستيعاب والفهم.
كيف تحدث ثغرة رقمية بسيطة، أو عطل تقني كما أطلق عليه، أن يحدث كل هذه الفوضى العارمة التي حولت شاشات الكمبيوتر في أرجاء المعمورة إلى آلة صماء مصبوغة باللون الأزرق، وهل بات عالمنا رهينة سهلة لها وفشل فشلًا ذريعًا في إعداد خطط بديلة تنقذه من قلة الحيلة والعجز، وتهيئه لمثل هذا الحدث المفاجئ والمباغت، رغم كل ما بلغناه من تطورات تكنولوجية مذهلة صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية ولا نقوى على الاستغناء عنها للحظة، وتمسك برقابنا جميعًا دون استثناء؟
نعم انحسر الخطر مرحليًا، لكنه لم ينتهِ، بل إنه قابل للتكرار مرة أخرى، لأنه أوضح أن كثيرًا من الكيانات والمؤسسات الدولية غير مستعدة لمواجهة حالات طوارئ مماثلة عند تعطل نظام تكنولوجيا المعلومات، أو برنامج واحد داخله، وسيتكبد العالم خسائر بمليارات الدولارات، مثلما حدث في الواقعة الأخيرة الناتجة عن حدوث خلل تحديث برمجي من شركة ” كراود سترايك ” للأمن السيبراني البالغة قيمتها السوقية 83 مليار دولار، وهى من الشركات ذائعة الصيت في هذا المجال الحيوي، ولديها 20 ألف عميل.
وذلك وضعٌ يحتم وجوبيًا أن تتعاون جهات ومؤسسات عدة في قارات العالم من أجل تنويع خياراتها التكنولوجية التي تعتمد عليها لتقديم كثير من الخدمات، حتى لا تكون تحت رحمة نظام واحد، إن أصابه عطب طارئ، نغرق في فوضى معلوماتية لا حدود لها، فتتوقف الخدمات الصحية، ورحلات الطيران، وتوصيل البضائع من مكان لآخر داخل الدولة الواحدة وبين الدول وبعضها البعض، فضلا عما سيلحق بالقطاع المصرفي من أضرار فادحة، فلا يستطيع العميل سحب دولار واحد من أمواله المودعة لدى البنوك، وباختصار غير مخل سنحرم من مزايا وتسهيلات اعتدنا عليها، منذ استيقاظنا صباحًا إلى أن نأوي إلى فراشنا مساءً.
وهذه المهمة الدقيقة والثقيلة يجب أن تتضافر جهود الجميع لإتمامها كما ينبغي وفى القريب العاجل، بما فيها الحكومات والهيئات الدولية المعنية وأرباب القطاع الخاص وشركات التكنولوجيا والمعلومات، لأن التقاعس والتجاهل سوف يتسببان في مخاطر أفدح وأوسع نطاقًا، فلا يمكن للعالم أن يرتد عن طريق التقدم التكنولوجي الذي قطع فيه أشواطًا وقفزات كبيرة، وسهل لنا أمور الحياة قاطبة، كذلك فإن هناك حاجة ملحة لكي لا تصبح أنظمة التكنولوجيا شديدة الارتباط بصورتها الراهنة، لأن هذا الارتباط يجعلها هشة جدًا، ولا تتحمل أقل ضربة توجه إليها، ويجب العثور على بدائل أخرى تحقق ترابطه بشكل أكثر مرونة وقدرة على امتصاص واحتواء هذه النوعية من الأزمات سريعًا وبأقل ضرر ممكن.
ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى ما قامت به الدولة المصرية من جهد فائق خلال السنوات الماضية في مجال الأمن السيبراني، وهو ما كان له أبلغ الأثر في عدم تعرضنا لمشكلات خطيرة على غرار ما شهدته الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأوروبية والآسيوية في الأزمة الأخيرة، ومرت علينا بسلام، ولذلك، فإنني دائما أردد أن ما تفعله الدولة وتتخذه من قرارات وتكون محل نقد واعتراض من قبل البعض حين صدورها، نفهم مغزاها وفوائدها المتعددة لاحقًا عند حدوث مثل هذه الكوارث، وأنها كانت في محلها تمامًا، فخطواتها مدروسة بعناية وتضع نصب أعينها استشراف المستقبل والاستعداد لما يحمله من مفاجآت وطوارئ عاصفة.