فضيحة الدم الملوث في بريطانيا
هناك اعتراض مألوف في المملكة المتحدة يعتبر أن أنظمة التأمين تخلق شرخاً مجتمعياً، وأنها تتحيز للقادرين على الدفع.
على رغم كل عمليات البحث المعمقة عن الأسباب ومظاهر الإعراب عن الندم التي تلت نشر التقرير براين لانغستاف Brian Langstaff، المثالي، جانب واحد من فضيحة الدم الملوث حظي باهتمام ضئيل نسبياً.
عملياً نجحت كل الدول التي تلقى فيها المصابون بـ”داء النعور” المعروف بالهيموفيليا haemophilia، أو المرضى الذين تلقوا العلاج في المستشفيات عن طريق حقنهم بكميات من أمصال الدم أو البلازما الملوثة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في التعامل مع، ووضع حد للمشكلة في وقت أسرع، وبشكل شامل أكثر من طريقة تعامل المملكة المتحدة مع المسألة.
ومن بين تلك الدول الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية القارية وإيرلندا، وكلها كانت نجحت في وقف استخدام منتجات مكونة من الدماء الملوثة [في علاج المرضى] قبل المملكة المتحدة. وبدأت تلك الدول وأنهت تحقيقاتها في المسألة قبل وقت طويل من قيام المملكة المتحدة بذلك، وفي بعض من تلك الدول – تحديداً في كندا وفرنسا – أطيح بعدد من المسؤولين بالفعل، ومن ضمنهم سياسيون، وأطباء، وممثلو شركات الصيدلة.
هذه الدول كلها وافقت أيضاً على آلية موحدة لدفع التعويضات، وإن كان ذلك في شكل توفير دخل شهري للمتضررين أو مبلغ كبير من المال كتعويضات مقطوعة. وكل ذلك في حين كانت حكومات المملكة المتحدة المتعاقبة مترددة في شأن ما يجب القيام به، إن كان هناك من شيء أساساً.
من الجيد بالطبع أن يقول رئيس الوزراء الحالي إن نتائج التحقيق في قضية الدماء الملوثة يجب أن “تهز وطننا في صميمه” لكن الأشخاص الوحيدين الذين قد يرتعشون قليلاً في صميمهم من السخرية وعدم الكفاءة ونعم مستويات الفجور الذي كشف عنه تحقيق لانغستاف موجودون في أروقة السلطة.
ومن خلال عمليتي تدخل عسكريتين فاشلتين في كل من العراق وليبيا، مروراً بكارثة هيلزبورو Hillsborough، [التي وقعت في ملعب لكرة القدم حيث قضى أكثر من 90 شخصاً في حادثة تدافع]، وصولاً إلى احتراق برج غرينفيل [وسط العاصمة لندن]، وعملية الإجلاء الفوضوية من أفغانستان، إلى مسألة الإخفاق في تحقيق العدالة بشكل مثير جداً في قضية مكاتب البريد الوطنية، التي هي حالياً موضوع تحقيق آخر، أصبح الناس معتادون جداً على القصور الذي تظهره دولتنا.
في مقابل مثل هكذا خلفية، إن فضيحة الدماء الملوثة، هي جزء من الحالة نفسها ولكن على مستوى أكبر، وهي مسألة تركت معلقة بشكل مخز منذ الأعوام الماضية.
من المفيد النظر في ما إذا كانت هناك خصوصية ما لدى المملكة المتحدة بخلاف ترددها العام حيال محاسبة موظفين حكوميين أو مسؤولين يتلقون راتباً جيداً وهو ما يشرح لماذا كانت المملكة المتحدة بطيئة إلى هذه الدرجة في الاستجابة بأي شكل من الأشكال إلى درجة أن برنامج التعويضات الشاملة في القضية لم يعلن سوى هذا الأسبوع – أي بعد نصف قرن على وقوع الحادثة.
وأنا أقترح هنا، أن هناك مشكلة اسمها هيئة “خدمات الصحة الوطنية”. غالبية الدول التي كانت قامت بجهد أفضل في الحد من الفضيحة وتوفير التعويضات عن الوفيات والأضرار الناجمة عن الدم الملوث، كان لديها أنظمة صحة عامة تعتمد أولاً على التأمين، وثانياً منفصلة عن خدمات الدولة.
وفوراً، يمكنني سماع الردود الغاضبة. فهناك اعتراض مألوف في المملكة المتحدة يعتبر أن أنظمة التأمين تخلق شرخاً مجتمعياً، وأنها تتحيز للقادرين على الدفع، تاركة من هم أفقر حالاً وأكثر مرضاً أمام خدمات أقل جودة، إن توفرت لهم أية خدمة صحية في الأساس.
والرد الآخر سيشير إلى أن نظامنا الصحي ربما كان أبطأ في رد فعله حيال المسألة، إلا أنه نظام خيري شامل، من خلال عدم إقصائه أياً كان من فرص العلاج، ولا يترك أحداً ضحية فاتورة علاجية تؤدي إلى الإفلاس. تخيلوا ماذا كان ليكون مصير الذين كانوا تسمموا بالدماء الملوثة في نظام لم يكن مثل هيئة خدمات الصحة الوطنية، أي لم يكن مجانياً خلال تلقي المريض الخدمة.
لكن ذلك يوصلني إلى النقطة الأساسية في طرحي، فما الأدلة المتوفرة بأن من تلقوا أمصال الدماء الملوثة في دول خاضعة لآلية التأمينات في نظامها الصحي، كانوا أسوأ حالاً مما من كانوا في المملكة المتحدة؟ في كثير من الدول كانت أعدادهم أقل، لأن عمليات استيراد أمصال الدماء الملوثة توقفت في وقت مبكر، ومعظم الناجين أعلموا بحقيقة ما جرى، ولذلك كانوا في وضع أفضل من المرضى في المملكة المتحدة، وذلك بسبب التوافق على حصولهم على فوائد وتعويضات مادية.
إن أنظمة التأمين في العموم لديها سمعة سيئة في هذا البلد، لأن المقارنات تتم في أغلب الأحيان مع الوضع في الولايات المتحدة، إذ إن النظام المتبع هناك يؤدي بالفعل إلى مفاقمة الانقسامات الاجتماعية، وحيث التكاليف الطبية ما تزال واحدة من أبرز الأسباب الكامنة وراء إفلاس كثيرين.
لكن، أنظمة التأمين الصحية الأوروبية، وإلى حد كبير، مختلفة لكونها تخلق شبكة أمان للجميع، في مقابل عملها على تفصيل مواءمتها لمدخول الفرد، ومنحه حق اختيار أية مرتبة عناية تناسب حاجاته. لا أحد يتعرض للإفلاس بسبب تكاليف تلقيه العلاج الطبي، ويؤدي المبدأ الذي يعتمد على دفع اشتراك في الخدمة، إلى تعزيز مستوى المسؤولية الفردية والتزامه بها.
وتؤدي تلك الأنظمة أيضاً إلى توليد مزيد من الأموال المخصصة للقطاع الصحي، إذ يتوجب على من هم من ميسوري الحال أكثر، أن يدفعوا أكثر، ويمكنهم أيضاً زيادة مساهماتهم لقاء ما يتلقونه من خدمة بشكل إضافي. في المملكة المتحدة “الزيادة” المادية تلك تذهب إلى القطاع الصحي الخاص المنفصل، وليس إلى صندوق التوفير الذي يستفيد منه الجميع.
إن الفارق الكبير بين هذين النوعين من أنظمة التأمين وخدمات الصحة الوطنية البريطانية لا يقتصر على عامل حق الاختيار. بل يقوم على تعدد موفري الخدمات التي، وإلى حد ما، في منافسة في ما بينها، وتعمل على أسس تجارية أو خيرية. وهذا ربما من شأنه أن يفسر لماذا جرى التعامل مع حادثة الدماء الملوثة بشكل طارئ أكثر، وعاجل، وأكثر فعالية من طريقة تعامل المملكة المتحدة مع المسألة. لأن الحادثة أثرت في عمل موفري الخدمات، وفي حالات متعلقة بمجموعات محددة بعينها، مثل المرضى الذين كانوا تلقوا عمليات نقل الدم، بشكل مختلف عن عملية تلقي الأفراد للعلاج في المؤسسة الاحتكارية الضخمة التي تدعى “خدمات الصحة الوطنية” البريطانية.
لقد كان لدى بعض الأطباء البريطانيين شكوك بوجود مشكلة في أمصال الدماء البلازما، وكانوا عملوا على إبعاد مرضاهم عن استخدام منتجات الدماء التي كانت مستوردة. لكن أولئك الذين قاموا في اتباع ذلك النهج كانوا قلة نادرة. والحجم الكبير للمشكلة، على ما يبدو كان سبباً لتأجيل الحكومات المتعاقبة في المملكة المتحدة عملية تشكيل لجنة التحقيق بهدف العمل على تدبير عملية التعويضات.
إن المسافة المؤسساتية [الاستقلالية] بين الحكومة وخدمات الصحة في تلك الدول التي لديها قطاع يعتمد على أنظمة تأمين هي سبب آخر لنجاحهم في التصرف بشكل مبكر أكثر. إن أية فضيحة في قطاع الخدمات الصحية لها تأثير سياسي مباشر في الحكومات مع ما يترتب على ذلك من تبعات على السمعة يحاول الطرفان تجنبها.
قد يكون لدى هيئة خدمات الصحة الوطنية البريطانية حالياً نظام إداري منفصل، لكن ما أظهرته الإضرابات خلال العام الماضي، أن الهيئة تعتبر على نطاق واسع في بريطانيا جزءاً من الخدمات الحكومية، مع عدم وضوح مبدأ المحاسبة وحدودها المائعة بين الوزراء وقطاع موظفي الخدمة المدنية الحكومية.
هناك كثير من الوضوح الأكبر في الأنظمة الصحية المعتمدة على التأمين، وترتبط بمن الجهة المسؤولة، وإذا ما كانت المسألة موضوع تكاليف مادية أم تتعلق بالمعايير السريرية، أو، وبالطبع حتى بالمعايير الناظمة لمنتجات أمصال الدماء. إن خدمات الصحة الوطنية هي في آن واحد مؤسسة تحتكر توفير العناية الصحية، وفي بعض الحالات جهة مسؤولة عن شراء واتخاذ القرارات العلاجية بشكل مجاني للجميع.
مع تحول الثناء الكبير الذي كانت حصلت عليه خدمات الصحة الوطنية على جهودها إبان جائحة كورونا إلى طي النسيان، وتراجع التقدير الشعبي لخدمات الصحة الوطنية إلى مستويات أدنى من أي وقت مضى، فإن فضيحة الدماء الملوثة يمكنها أن تقدم الدافع للتغيير الذي أصبح حاجة ملحة.
وفي خضم التفكير بأي اتجاه قد يسلكه ذلك التغيير، فإن النظر إلى كيفية تعامل النظام الصحي الأوروبي المعتمد على التأمين مع فضيحة الدماء الملوثة، ثم كيفية تعاملهم مع جائحة كورونا – الذي لم يكن أسوأ من المملكة المتحدة وفي بعض الدول أفضل – قد يكون نقطة بداية جيدة لبدء المراجعة.