فضيحة الأهداف الإستراتيجية الأميركية
سياسات الولايات المتحدة وحلفائها تجاه الحرب في أوكرانيا وقطاع غزة، فضحت تمامًا أهدافها الإستراتيجية القومية.
توشكُ الحرب الروسية على أوكرانيا أن تكمل عامَها الثاني، وتوشك الحرب الصهيونية على قطاع غزة أن تكمل شهرَها الخامس، دون أن تحقّق كلٌّ منهما أيًا من أهدافها المعلنة للحرب، باستثناء نتائجهما الفادحة على المدنيين والبنى الفوقية والتحتية، وعلى العمل والإنتاج في كافة مجالات الحياة؛ السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والصناعية، والعلمية، والتعليمية، والاجتماعية، لتصيبها بشلل شبه تام، أعاد عقارب الحياة فيها إلى الوراء سنوات طويلة.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هاتين الحربين، وبدلًا من أن تقوم بدورها كقائدة للعالم في هذه المرحلة التاريخية؛ غاصت في دمائهما إلى درجة أضرّت كثيرًا بشعارات وخطط إدارة الرئيس جو بايدن التي لم يبقَ له سوى بضعة أشهر. كما أضرت أكثر بالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي بجوانبها؛ السياسية، والعسكرية، والاقتصادية.
سياسات الولايات المتحدة وحلفائها تجاه الحرب في أوكرانيا وقطاع غزة، فضحت تمامًا أهدافها الإستراتيجية القومية، التي باتت بحاجة ماسّة إلى ضبط ممارساتها بميزان العدالة المطلقة، التي لا تقبل بالمعايير المزدوجة، ولا تميز بين إنسان وآخر
تحت شعار: “إعادة بناء أميركا بشكل أفضل” خاض الرئيس جو بايدن حملته الانتخابية عام 2020م ليتغلّب على خَصمه الجمهوري دونالد ترامب، ويقود الإدارة الأميركية باعتباره الرئيس 46 للولايات المتحدة للفترة 2021-2025م. وانطلاقًا من هذا الشعار حدّد بايدن الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي التي أعلن عنها في مارس/ آذار 2021م؛ في العناوين الثلاثة التالية:
حماية الشعب الأميركي.
توسيع الأمن الاقتصادي وزيادة الفرص.
تعزيز القيم الديمقراطية في الولايات المتحدة وخارجها.
موضّحًا أن تحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية يحتاج إلى:
الدفاع عن مصادر القوة الأساسية الأميركية.
ردع ومنع خصوم الولايات المتحدة وحلفائها.
قيادة النظام العالمي.
تنشيط التحالفات والشراكات في جميع أنحاء العالم.
وبناء على ذلك؛ وفي أول خطاب له بتاريخ 4/2/2021م، أعلن بايدن أن إدارته ستباشر العمل على تحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، من خلال المسارات الخمسة التالية:
إعادة أميركا لقيادة العالم.
مواجهة الصين وروسيا، الأولى لكونها المنافس الأكبر للولايات المتحدة، والثانية بسبب محاولتها الإضرار بالديمقراطية الأميركية وإفسادها.
إصلاح ما أفسده الرئيس ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي والناتو، والشروع في إعادة بناء التحالفات الإقليمية والدولية ودعمها.
تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعمل على إنهاء النزاعات الإقليمية كما في اليمن وليبيا والسودان (في الشرق الأوسط على سبيل المثال).
تعزيز الدبلوماسية الأميركية باعتبارها السبيل الوحيدة لاستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة وتجنب الصدام.
وكانت كلمة بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2021م مبشّرة بعالم مزدهر، يزخر بالاستقرار والتعاون والتعايش والمساواة، ويحقق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ولكنها ظلت مجرد كلمات موسمية لا تتجاوز أهميتها قيمة الورق الذي كُتبت عليه.
عن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركيّة، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية ما دامت تلبّي طلباتها وترعى مصالحها؟، وعن أي حقوق إنسان تتحدث وهي ترفض وقف إطلاق النار في غزة، التي بلغ عدد ضحاياها المدنيين في خمسة أشهر، خمسة أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين في عامين؟
تجليات السياسة العوجاء
ممارسات الإدارة الأميركية تجاه الحربين الدائرتين في كل من أوكرانيا وقطاع غزة؛ وضعت المسارات الخمسة السابقة على المحك، لتكشف مدى التضليل الكامن فيها، ومدى الضرر الذي لحق بها وبالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي التي انهارت تحت الدمار والأشلاء، ليس بسبب السياسة العوجاء التي اتبعها الرئيس بايدن فحسب، وإنما التي تتبعها الإدارات الأميركية المتعاقبة بشكل عام، ونستعرض فيما يأتي أبرز التجليات التي توضّح ذلك:
لم يمضِ عام على تحديد هذه المسارات، حتى اجتاحت القوات الروسية المحافظات الشرقية لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022م، بعد أن فشلت الدبلوماسية الأممية والأميركية والغربية سريعًا في احتواء الأزمة ومنع الحرب.
فيما يمكن تفسيره بأنه فشل متعمد؛ لأن هذه الدبلوماسية لم تنطلق أبدًا من الحرص على احتواء النزاعات وتعزيز الاستقرار في العالم، وضربت عُرضَ الحائط بالأسبابِ التي دفعت روسيا إلى التحرُّك لشنّ الحرب، مطالبة إياها بالانسحاب دون قيد أو شرط، دون تقديم أي ضمانات لها تدفعها بعيدًا عن الخيار العسكري.
وكان ذلك بمثابة فضيحة كبرى لمزاعم إدارة بايدن حول سعيها لتعزيز الدبلوماسية، باعتبارها “السبيل الوحيدة لاستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة وتجنب الصدام”.
كان يمكن نزع فتيل الحرب الروسية على أوكرانيا قبل بدئها، وحقن دماء أكثر من نصف مليون جندي سقطوا بين قتيل وجريح، منهم أكثر من 300 ألف روسي وأكثر من 200 ألف أوكراني، بالإضافة إلى أكثر من 10 آلاف قتيل و18500 مصاب من المدنيين الأوكرانيين حسب تقديرات الأمم المتحدة.
كان يمكن نزع فتيل الحرب والكفّ عن زرع حوالي 175 ألف لغم في 30٪ من الأراضي الأوكرانية، تحتاج إلى 757 عامًا حتى يتم نزعها، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
كان يمكن إيقاف الحرب، وتوفير حوالي 350 مليار دولار تم إنفاقها واعتمادها للعام الجاري، من أموال الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية لتسديد فاتورة الحرب العسكرية والمالية والإنسانية في أوكرانيا، وهو المبلغ الذي تجاوز الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة عام 1948م، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حسب خطة مارشال لإعمار وتشغيل الاقتصاد الأوروبي والمصانع الأوروبية، والبالغ وقتها 13.3 مليار دولار، أي ما يعادل 173 مليار دولار عام 2023م.
كان يمكن إيقاف الحرب وتوفير 486 مليار دولار تحتاجها أوكرانيا للتعافي وإعادة بناء اقتصادها على مدى 10 سنوات، حسب تقديرات البنك الدولي مؤخرًا، وتوفير تكلفة الأضرار التي بلغت في العامين الماضيين 152 مليار دولار، إضافة إلى نصف تريليون دولار قيمة الخسائر الناجمة عن تعطل الاقتصاد التجاري والتكاليف المرتبطة بالحرب، إضافة إلى تكاليف إعادة الإعمار التي تحتاج الأعمال العاجلة منها لعام 2024م حوالي 15 مليار دولار، حسب البنك الدولي.
عادت الولايات المتحدة لقيادة العالم، وتحدثت إدارة بايدن مرارًا وتكرارًا عن تعزيز النظام العالمي القائم على القواعد، ولكنها ظلّت عودة شعاراتية لم تتحول إلى حقيقة واقعية إلا مع الدول الحليفة أو الشريكة للولايات المتحدة.
فقد كشفت الحربان في أوكرانيا وقطاع غزة أن هذه القواعد عبارة عن الأحكام والسياسات التي تعزّز هيمنة الولايات المتحدة، وتحقق مصالحها ومصالح حلفائها، وتستعملها بالطريقة التي تراها بما يحافظ على سلامة واستقرار هذه المصالح.
وقد قدّم ذلك المبررات التي تدعم الدول التي تطالب بإعادة بناء النظام العالمي وتحريره من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مقدمتها الصين وروسيا.
فضحت الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الصهيونية في قطاع غزة هذا النظام العالمي الذي لا يعمل إلا لحساب الولايات المتحدة وحلفائها.
ولذا نجدها تدعم حق أوكرانيا في الاستقلال والحرية والسيادة الكاملة على أرضها، وتدعو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الانسحاب منها دون قيد أو شرط، وتفرض عليه كل أنواع العقوبات، وتقدّم للحكومة الأوكرانية (الضحية) كافة أنواع الدعم السياسي والعسكري والأمني والمالي والإنساني، لتمكينها من إلحاق الهزيمة بروسيا (الجانية) التي يجب على الدول الغربية ألا تسمح لها بالنصر.
وعلى العكس تمامًا؛ تقف الإدارة الأميركية إلى جانب الكيان الصهيوني (الجاني) في حربه على غزة، وتوفر له كافة أنواع الدعم السياسي والعسكري والمالي والإنساني، لينتصر على حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزة (الضحية)، التي لا تعترف الولايات المتحدة بإنسانيتهم، ولا بحقهم في مقاومة الاحتلال واستعادة حقوقهم السليبة التي كفلها لهم القانون الدولي والإنساني.
إنها ازدواجية المعايير الإجرامية التي كشفت بشكل صارخ، طبيعة النظام العالمي الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها، الذي صار سخرية الغالبية العظمى من البشر، حتى داخل الولايات المتحدة والدول الغربية.
ومن قبل أوكرانيا وغزة، سقط هذا النظام سقطة مدوية، عندما واصلت الولايات المتحدة موقفها الداعم لتايوان سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا في وجه الصين، رغم اعترافها بسيادة الصين على تايوان.
وزادت الحرب الصهيونية على قطاع غزة من كشف عورة هذا النظام العالمي القائم على القواعد الأميركية؛ عندما عطّلت الولايات المتحدة عمل المؤسسات الدولية لهذا النظام- الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأمم المتحدة، والصليب الأحمر الدولي، والأونروا ومنظمة الصحة العالمية- الداعمة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنعت مجلس الأمن للمرة الثالثة على التوالي من اتخاذ قرار يلزم الكيان الصهيوني بوقف إطلاق النار.
نجحت إدارة الرئيس بايدن في إعادة بناء تحالفات الولايات المتحدة مع الدول الغربية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، والتي تضررت كثيرًا في فترة رئاسة دونالد ترامب.
وسرعان ما كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، أن هذه التحالفات ليست مجرد رد على ترامب، وإنما لحشد دول العالم ضد روسيا والصين، وفرض الخطط والمشروعات الأميركية الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية على العالم، بما يحقق الأهداف الإستراتيجية الثلاثة التي حددتها إدارة الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي، وبما يعزز هيمنة الولايات المتحدة وتفردها بزعامة العالم.
وجاءت الحرب الصهيونية على قطاع غزة لتؤكد ذلك، عندما هبّت الولايات المتحدة وحلفاؤها هبة واحدة في وجه (الضحية) لينتصروا لـ(الجاني)، مثلما هبّوا من قبل هبّة واحدة في وجه روسيا (الجاني) لينتصروا لـ(الضحية) المتمثلة في أوكرانيا.
كان سلوك الإدارة الأميركية تجاه حرب الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة، خير دليل على الخلل المفاهيمي لديها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتناقضه مع ممارساتها التطبيقية في العديد من دول العالم.
فعن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركية، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية ما دامت تلبي طلباتها وترعى مصالحها؟، وعن أي حقوق إنسان تتحدث الإدارة الأميركية وهي ترفض وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي بلغ فيه عدد الضحايا من المدنيين ما بين قتيل وجريح في خمسة أشهر حوالي خمسة أضعاف الضحايا المدنيين الأوكرانيين في عامين على أيدي القوات الروسية التي تحتل الترتيب الثاني بعد الولايات المتحدة كأقوى الجيوش في العالم، حسب تقرير “غلوبال فايرباور” لهذا العام؟.
وما هذا البون الشاسع في الضحايا المدنيين بين قطاع غزة وأوكرانيا إلا بسبب وقوف الولايات المتحدة وحلفائها إلى جانب الكيان الصهيوني، وتوفير جميع أنواع الدعم اللازم لتحقيق أهدافه من الحرب. علمًا أن عدد سكان أوكرانيا قبل الحرب مباشرة كان حوالي 44 مليون نسمة.
الصورة التي رسمتها الولايات المتحدة، بعدم احتوائها الحربَ في أوكرانيا ومساندتها الكيانَ الصهيوني في غزة؛ فضحت تمامًا الأهداف الإستراتيجية القومية للولايات المتحدة، التي باتت بحاجة ماسّة إلى ضبط ممارساتها بميزان العدالة المطلقة التي لا تقبل بالمعايير المزدوجة، ولا تميّز بين إنسان وآخر.