أوروبا

فرنسا: خطوة أخرى باتجاه اليمين

خلصت إحصائية تم نشرها قبل أيام إلى أن 77% من الفرنسيين يرغبون في تشديد مراقبة الحدود والمعابر، بما فيها تلك المشتركة مع دول أوروبية أخرى، ما يعني بالضرورة تفكيك اتفاق «شنغن»، المتعلق بحرية الحركة والذي كان يعد أحد أكبر إنجازات القارة

اليمين المعتدل أو الوسطي في فرنسا مختلف بلا شك عن اليمين المتطرف، لكن هناك ارتباطات واشتباكات لا تخفى بين الاتجاهين. ليس أدل على ذلك مما ظهر في عدم اعتراض مارين لوبان على ترشيح «المعتدل» ميشيل بارنييه لرئاسة الوزراء. سياسيون من قبيل الرئيس السابق فرانسوا هولاند مضوا للقول، إن بارنييه في منصبه بفضل دعم اليمين المتطرف.
مهمة بارنييه، الذي اختاره الرئيس إيمانويل ماكرون من خارج الصندوق الانتخابي، والمتعلقة بتشكيل حكومة متوافق عليها كانت معقدة، فإن هو استبعد أحد الفاعلين السياسيين، الذين تقاسموا تقريباً الأصوات، فسيتسبب في أزمة تعزز من إحساس المبعدين بتعمد إقصائهم، وإن هو جمع كل أطراف الطيف السياسي، فسوف ينتج ذلك حكومة متشاكسة بسبب فرط الخلافات المتوقعة بين الاتجاهات المتباينة.

العقدة الأهم من بين كل ذلك تتمثل في اليساريين، الذين لعب تجمعهم، «الجبهة الشعبية الجديدة»، دوراً مهماً في تشتيت الأصوات، وإزاحة خطر اليمين المتطرف، الذي كاد لولا ولادة هذا الائتلاف، أن يسيطر بغالبية مريحة على مقاعد البرلمان. المعترضون على منح دور سياسي أكبر لليسار، على الرغم من تقدمه، يعتبرون أن تلك النتيجة، التي حصل عليها، والتي جعلت أنصار «الجبهة الشعبية» يأتون في المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات، لم تكن بسبب اقتناع الناخبين ببرنامجهم، بقدر ما كانت نكاية في أطروحة اليمين المتطرف، الذي مثلته مارين لوبان وجوردان بارديلا من «التجمع الوطني».

بارنييه، الذي ارتبط اسمه بالتفاوض عن الأوروبيين في ما يتعلق بالخروج البريطاني، بدا التحدي أمامه أصعب، وفرصه لخلق توافق أضأل بكثير مما كان عليه الحال إبان «البريكست». وجه الاهتمام الآخر برئيس الوزراء الجديد هو أن اسمه يذكّر باقتراح قدمه قبل عامين مقترحاً فيه أن يتم فرض حظر على الهجرة من خارج الاتحاد الأوروبي لمدة تصل لخمس سنوات، وهو أحد المواقف التي جعلت لوبان تقول، إن آراءها وآراء بارنييه حول الهجرة متطابقة. هيمنة اليمين مجدداً بعد لحظة أمل بانتصار «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي كانت قد وعدت بتحسين التعامل مع المهاجرين والقادمين، تبدو محبطة للكثيرين. القلق الذي تشعر به الأقليات، وعشرات الآلاف من المقيمين، الذين ظلوا ينتظرون منذ سنوات توفيق أوضاعهم، مشروع، لكن الأكثر خطورة هو الوضع، الذي بات فيه الغرب الأوروبي اليوم، نقصد هنا الوضع المائل إلى اليمين والشعبوية. لك أن تتخيل أن منع ارتداء الحجاب في المدرسة، أو العمل، وما تمخض عنه من منع لارتداء العباءات في فرنسا، على اعتبار أنها من رموز الإسلام السياسي، إلى جانب إغلاق العشرات من المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية، كل ذلك كان برعاية «الوسط»، الذي يمثله الرئيس ماكرون، والذي تقول دعايته إنه يناضل حتى لا يصل «المتطرفون»، من مثال لوبان إلى الحكم. تكمن المفارقة في أن الأخيرة تصف نفسها هي الأخرى بالمعتدلة في مقابل شخصيات أكثر تطرّفا وعنصرية مثل المثير للجدل إيريك زمور.

متابعة هذه التحولات مهمة. أبناء المهاجرين وغيرهم من الحالمين بالاستقرار في القارة الأوروبية يجب عليهم أن يستوعبوا أن أوروبا الحالية مختلفة عن أوروبا نهايات القرن الماضي. مياه كثيرة سرت تحت الجسر خلال العقود الأخيرة، فيما أجبرت التطورات السياسية والاقتصادية شرائح اجتماعية مختلفة على إعادة النظر في مسألة الهجرة، وما ارتبط بها من سياسات لجوء وانفتاح وتقبل للآخر. ما يسمى باليمين المتطرف وما يرتبط به من اتجاهات نازية وفاشية، لم تعد تيارات معزولة يخجل أصحابها من التصريح بالانتماء إليها، بل أصبحت الاتجاه، الذي ينافس أكثر من غيره للتغول على مقاعد البرلمانات وللفوز بالرئاسة.
خلصت إحصائية تم نشرها قبل أيام إلى أن 77% من الفرنسيين يرغبون في تشديد مراقبة الحدود والمعابر، بما فيها تلك المشتركة مع دول أوروبية أخرى، ما يعني بالضرورة تفكيك اتفاق «شنغن»، المتعلق بحرية الحركة والذي كان يعد أحد أكبر إنجازات القارة. نذكّر هنا بأن فرنسا كانت فعّلت مكاتبها الحدودية بالفعل مع دول مثل إسبانيا وإيطاليا خشية تدفق اللاجئين، حيث بات من المطلوب إبراز الهويات، خاصة بالنسبة للأشخاص «المشكوك فيهم». فرنسا ليست وحدها، فألمانيا تعيش هي الأخرى تقدماً تاريخياً لليمين الشعبوي أفضى لقطيعة قاسية مع سياسة الباب المفتوح، التي كانت أنغيلا ميركل قد اتّبعتها. مؤخراً تم الإعلان في ألمانيا عن إجراءات جديدة بشأن المعابر الحدودية. يشير ذلك إلى حجم الاختلاف في السياسات الألمانية بين عامي2015 وعامنا الحالي 2024. القنوات الإخبارية كانت نقلت مشاهد لرجال شرطة وهم يوقفون باصات سفرية عند الحدود، من أجل مراقبة الهويات. كان ذلك موجوداً كاستثناء، قبل أن يتحول اليوم لقاعدة يتم تبريرها بتدفق أعداد من اللاجئين المتسللين. أحداث العنف الشعبي ضد المهاجرين في بلد كان معروفاً بالتسامح مثل بريطانيا، مثّل دليلاً جديداً على نجاح الدعاية الشعبوية في شيطنة الأجانب. بعد الكثير من الخسائر اكتشف الجميع أنهم كانوا ضحية إشاعة وأن الجريمة، التي أثارت غضبهم، لم يكن مرتكبها مهاجراً. «الانتصارات» اليمينية والقدرات الفائقة على شيطنة المهاجرين واستكمال السيطرة الاجتماعية والسياسية على المجال العام طالت حتى البلدان التي كانت تملك سمعة جيدة في ما يتعلق بمعاملة الأجانب. لا ينفصل كل ذلك عن السياسة الخارجية، حيث يمكن لعلو اليمين أن يفسر لنا لماذا بات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي غير مطروح في الوقت الحالي. من جهة أخرى يفسر ملف الهجرة دخول دول أوروبية في علاقات مصلحة وتواطؤ لا مفر منها مع أنظمة استبدادية في الجنوب مقابل ضمان «تعاونها».

إقرأ أيضا : كيف سيُدار الحوار الوطني الذي سيطلقه الرئيس الجزائري؟

ما نعتقده هو أنه سيكون من الصعب على بارنييه القيام بخطوات أكثر تشدداً تجاه المهاجرين خلال الأشهر المقبلة، وذلك لصعوبة خلق توافق حول مثل تلك الإجراءات من جهة، ومن جهة أخرى لأن السلطة الحاكمة، الممثلة في الاتجاه الماكروني الجمهوري الوسطي، كانت قد استنفدت فعلاً كل ما بوسعها، حتى إنها زايدت على اليمين المتطرف في ما يتعلق بملف الأقليات، خاصة الأقلية المسلمة، التي تم تقييد حريتها في العمل واللباس تحت مسوغ احترام العلمانية.

الاتجاه الماكروني حاول أن يكون بديلاً عن اليمين التقليدي وأن يختار لنفسه طريقاً وسطاً، إلا أنه فشل في أن ينال رضا المتطرفين الكامل، وأن يستحوذ على ناخبيهم. أولئك الناخبون يضغطون الآن من أجل أن تكون فرنسا أكثر تمثيلاً لتطلعاتهم ولا يرضيهم شيء سوى إظهار الشدة، خاصة في ما يتعلق بمسألة الهجرة. الماكرونيون كسبوا في الوقت ذاته عداء اليساريين، خاصة الأكثر راديكالية منهم، كحزب «فرنسا الأبية»، الذي بلغ الأمر برئيسه جان لوك ميلانشون حد المطالبة بعزل ماكرون.
في نقده لواقع الحال، الذي أدى إلى تعيين بارنييه يقول جوردان بارديلا رئيس «التجمع الوطني» اليميني، إنه «إذا كان بارنييه هو مجرد امتداد لسياسة إيمانويل ماكرون المستمرة منذ ثماني سنوات، فإن هذه الحكومة ستسقط».

ليس التجمع الوطني وحده هو الذي يهدد بإسقاط الحكومة، بل يظهر أن هناك إجماعاً على أن عمر الحكومة الجديدة لن يكون طويلاً، وأنها ستنتهي في فترة قد لا تتجاوز العام. الخبر السيئ هو أن ولادة حكومة تملك نظرة مختلفة عن هذه النظرة اليمينية الطاغية يبدو حلماً بعيد المنال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى