أوروبا

فرنسا تحبّها ولكنك تغادرها: كتاب عن شتات المسلمين الفرنسيّين

وتدور معظم دوافع الرحيل حول العنصرية الدينية والإسلاموفوبيا المتفشية في البلاد، لا سيما منذ عام 2015 وتصاعد موجة التهديد الإرهابي، والذي ترافق مع صعود في موجة اليمين المتطرف. ويريد هؤلاء الهاربون من بلدهم الأم، حيث وُلدوا وعاشوا ودرسوا أن "تتركهم فرنسا بسلام مع دينهم"

في أعقاب انتفاضة الضواحي التي هزت فرنسا عام 2005، ألقى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والذي كان يشغل حينذاك منصب وزير الداخلية في إدارة شيراك، خطاباً شهيراً في نيسان (أبريل) عام 2006 قال فيه، رداً على شباب الضواحي: “إذا كان هناك أي شخص لا يريد البقاء في فرنسا، فأنا أقول ذلك بابتسامة ولكن بحزم، لا تترددوا في مغادرة بلد لا تحبونه (…) فإما أن تحب فرنسا أو تغادرها”.
لم يكن ساركوزي يعتقد أن هذه الدعوة قد تلقى قبولاً لدى قطاع واسع من الشباب الفرنسي المسلم. وهو ما تلقي عليه الضوء الدراسة التي تثير هذه الأيام جدلاً واسعاً في فرنسا والتي نشرت في كتابٍ يحمل عنوان “فرنسا تحبها ولكنك تغادرها: استطلاع حول شتات المسلمين الفرنسيين”. قام بالدراسة ثلاثة أكاديميين، هم أليس بيكارد وأوليفييه إستيفيس وجوليان تالبين الذين حققوا في “الهروب الصامت” للنخبة المسلمة الفرنسية من البلاد.
تستند الدراسة إلى عيّنة كمية مكوّنة من أكثر من 1000 شخص و140 مقابلة معمقة، مع أشخاص ولدوا ونشأوا في فرنسا، لكنهم اختاروا المغادرة ذات يوم، كاشفةً عن جهد بحثي طويل امتد بين 2011 و2023. يسلط هذا المسح الاجتماعي غير المسبوق الضوء للمرة الأولى على أسباب هذه الظاهرة، التي تصاعدت بقوة خلال عهد الرئيس إيمانويل ماكرون. تكشف المقابلات والشهادات عن الطبيعة الطبقية لهؤلاء الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى وبعضهم لطبقات أكثر رفاهاً، وتبين مستواهم الثقافي والتعليمي العالي، فأغلبهم من ذوي الدرجات الجامعية العالية في تخصصات لها جاذبية كالذكاء الصناعي والطب والتكنولوجيا والاقتصاد. كما تشرح بالتفصيل كيف يُنظر إليهم كمسلمين في المجتمع الفرنسي، وأسباب رحيلهم، ومعايير اختيار الوجهات، وتجربة الاستقرار والعيش في الخارج، والنظرة المستقبلية لعلاقتهم بفرنسا، وآفاقهم المستقبلية.
وتدور معظم دوافع الرحيل حول العنصرية الدينية والإسلاموفوبيا المتفشية في البلاد، لا سيما منذ عام 2015 وتصاعد موجة التهديد الإرهابي، والذي ترافق مع صعود في موجة اليمين المتطرف. ويريد هؤلاء الهاربون من بلدهم الأم، حيث وُلدوا وعاشوا ودرسوا أن “تتركهم فرنسا بسلام مع دينهم”، كما يقول أوليفييه إستيفيس، الأستاذ المتخصص في العالم الناطق باللغة الإنكليزية في جامعة ليل، وأحد المؤلفين المشاركين. ومن خلال المسح الكمي، تكشف الدراسة عن وجود دافعين رئيسيين لتبرير الرحيل على المستوى الاجتماعي، إذ عبر 71% من الذين شملهم الاستطلاع عن أن “العنصرية والتمييز” هما ما دفعهم إلى المغادرة، فيما طرح 63% منهم عفوياً “صعوبة عيش دينهم بسلام”. وتقول أليس بيكارد، المؤلفة المشاركة والباحثة في العلوم الاجتماعية، إن هناك “جواً من الإسلاموفوبيا”، يمكن أن تعتبره السبب الرئيسي لهذه الهجرة. وحتى لو أخذنا النتائج بقدر قليل من الشك، فيمكننا أن نتحدث عن العنصرية ضد العرب، حتى غير المسلمين منهم، إذ تلاحظ وجود عنصرية ذات جذر ثقافي أكثر منها عنصرية دينية. لذلك يولد انطباع بأنه عندما يصل هؤلاء الأشخاص إلى المصعد الاجتماعي فإنهم يواجهون أكبر قدر من التمييز، كما في مجالس إدارة الشركات أو في الجامعات أو في المؤسسات الحكومية وغيرها من الهياكل ذات التسلسل الهرمي.
 وتسلط معظم المقابلات مع الشباب والبنات المسلمين، الذين غادروا، الضوء على المناخ الثقيل الذي عاشوا فيه خلال سنواتهم الأخيرة في فرنسا، داخل الشركات والمؤسسات التي اشتغلوا فيها أو تعلموا، مثل المناقشات حول الحجاب أو العباءة. وتلفت بيكارد إلى ذلك بالقول: “بمجرد وقوع هجوم إرهابي، كان يجب على هؤلاء الشباب أن يقدموا، أكثر من غيرهم، دليلاً إلى الولاء للجمهورية والعلمانية وكأنهم متهمون أو يقفون وراء هذه الهجمات”. أما عن الوجهات التي ينطلق نحوها هؤلاء المغادرون فهي أساساً دول الخليج العربي، وبخاصة الإمارات العربية المتحدة وقطر، وكذلك كندا والولايات المتحدة وسويسرا وإسبانيا ولوكسمبروغ. بحسب الشهادات يجد هؤلاء في هذه الوجهات مكاناً أفضل لبداية حياة جديدة بعيداً عن التمييز في سوق العمل والوصم بسبب دينهم أو أسمائهم أو أصولهم. لكن الجانب الآخر الذي يسلط عليه الكتاب الضوء هو محدودية رفاهية خيار المغادرة. فليس كل الشباب العربي أو المسلم في فرنسا لديه هذه الفرصة للمغادرة والهرب، بل إن ذلك متاح فقط لأقلية صغيرة من ذوي التأهيل الجامعي العالي، والذين جاء أغلبهم من عائلات تنتمي إلى الطبقة العاملة وأحياء شعبية، يريدون تجاوز مسارهم الاجتماعي الصعب نحو أفق آخر، أو فئة أقلية أخرى تنتمي إلى طبقة تجارية ميسورة قادرة على استئناف حياتها في أي مكان من العالم. واللافت أن الذين يسلكون طريق الهرب لا يفكرون في العودة إلى البلد الذي وُلدوا ونشأوا فيه، رغم أنهم يستفيدون من امتياز كونهم فرنسيين في الخارج.
لذلك فإن الكتاب يضع يده على مسألة على غاية من الأهمية بالنسبة إلى فرنسا التي تعاني كغيرها من الدول الأوروبية أزمة ديموغرافية، تتجه نحو التعاظم في السنوات القادمة، وتعاني في الوقت نفسه نقصاً في الكوادر في قطاعات التكنولوجيا والصحة وغيرها، تضيف إلى أزمتها هجرة الكفاءات.
تتطابق هذه الصورة مع حدث قبل ثلاثة قرون عندما ألغى الملك لويس الرابع عشر مرسوم نانت عام 1685، الذي وضعه جده هنري ليضع حداً للحروب الدينية التي عصفت بالمملكة لمدة 36 عاماً من خلال منح الحقوق الدينية والمدنية والسياسية للبروتستانت ليتيح إمكان إقامة تعايش ديني سلمي. لكن صنيع الحفيد أدى في ذلك الوقت إلى نفي حوالي 200 ألف بروتستانتي من مملكة فرنسا، نحو بريطانيا وألمانيا، وكان العديد منهم ينتمون إلى النخبة الفكرية، وقد أدت هجرة الأدمغة هذه إلى تعزيز قوة المنافسين الاقتصاديين لفرنسا.
ولا يتعلق الأمر في هذا السياق بالمسلمين فقط، بل هي ظاهرة عامة في البلاد. حتى أن الفرنسيين بيار أغوستيني وآن لولييه، اللذين حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء العام الفائت لا يعملان في فرنسا. وتشير الإحصاءات الفرنسية إلى أن حوالي 80 ألف فرنسي يغادرون البلاد للاستقرار في الخارج سنوياً، أغلبهم لأسباب اقتصادية، إذ تعتبر فرنسا من الدول ذات الضرائب المرتفعة، بخاصة في مجال الأعمال، لذلك يبحث الكثيرون عن فرص استثمارية في المغرب والخليج العربي والصين وفيتنام وأفريقيا جنوب الصحراء. وقد أشار الكثير من الشباب المسلم في المقابلات التي أجريت معهم في الكتاب إلى وجود الدافع الاقتصادي المتعلق بالثقل الضريبي، الذي لا يمكن معه النجاح في تنمية أي أعمال تجارية، إلا ضمن مجموعات اقتصادية كبيرة. ورغم أن سيادة نفوذ العولمة، قد فرضت منذ بداية القرن الحالي، وجود حركات دائمة للهجرة المهنية، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن التوازن بين تدفقات “رأس المال البشري” الواردة والصادرة على المدى الطويل. وإذا أصبح هذا التوازن سلبياً دائماً فسيصبح الأمر مثيراً للقلق بالنسبة إلى بلد يضع على رأس أولوياته خطة “إعادة توطين الصناعات” و”السيادة الرقمية” وغيرها من طموحات ماكرون “الإمبراطورية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى