على مدار عقود، كانت العلاقات بين فرنسا والجزائر تتأرجح بين التعاون والتوتر، ولكن في السنوات الأخيرة شهدت تلك العلاقة تحولات كبيرة أوصلتها الى مرحلة حساسة تكاد تكون أقرب الى القطيعة الرسمية وهنا أصبحت التساؤلات تُطرح بشأن الخسائر التي قد تتحملها فرنسا نتيجة هذه الأزمة. العلاقات الفرنسية الجزائرية ليست مجرد علاقة بين دولتين؛ بل هي ارتباط تاريخي عميق متشابك بالعوامل السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية.
تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة المثيرة للجدل حول “النظام السياسي الجزائري” والطعن في شرعية القيادة الجزائرية أثارت استياءً كبيرًا في الجزائر، واعتُبرت تدخلًا غير مبرر في شؤونها الداخلية. كما أن فشله في تقديم اعتذار صريح عن الجرائم الاستعمارية وتعويض الضحايا، أعطى انطباعًا بأن فرنسا ما زالت غير مستعدة لتحمل مسؤولياتها التاريخية.
اللافت أنه و منذ وصول ماكرون إلى السلطة، تبنّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابًا متناقضًا تجاه الجزائر، حيث حاول في البداية تقديم نفسه كزعيم يدرك أهمية التصالح مع الماضي الاستعماري. ولكن على أرض الواقع، كانت سياساته وتصريحاته سببًا رئيسيًا في تعميق الفجوة بين البلدين.
ماكرون يزيد الطين بلة
تتسم إدارة ماكرون للأزمات الدبلوماسية مع الجزائر بالقليل من العقلانية وفي الكثير من الأحيان وصفت بأنها تفتقر للحساسية في التعامل مع شريك صعب خاصة وأن فرنسا لم تسو بعد فاتورة الإرث التاريخي الذي يجمعها مع الجزائر على مدار السنوات الطويلة من الإستعمار ، وهو ما يمثل بالنسبة للمسؤولين في الجزائر مسألة جوهرية لبناء علاقة متوازنة ومستدامة، وتفسير فرنسا لهذه الجرائم بأنها جزء من “تاريخ مشترك” دون اعتذار واضح، أعاق تحسين العلاقات بشكل فعلي.
أدلى ماكرون بتصريحات أثارت استياء القيادة الجزائرية والنخبة السياسية. على سبيل المثال، تصريحاته في أكتوبر 2021 التي شكك فيها في وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي. هذه التصريحات أُعتبرت إهانة للهوية الوطنية الجزائرية ونضالها من أجل الاستقلال، مما دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها واعتبار ذلك تدخلًا في سيادتها.
قام ماكرون بمحاولات لإصلاح العلاقات مع الجزائر، مثل زيارته إلى الجزائر في أغسطس 2022. خلال هذه الزيارة، تحدث عن أهمية العلاقة بين البلدين وضرورة تجاوز التوترات التاريخية. ومع ذلك، لم تكن هذه المحاولات كافية لتخفيف التوترات بشكل دائم.
على الرغم من بعض الخطوات التي اتخذها ماكرون، مثل الاعتراف بمقتل المناضل الجزائري علي بومنجل خلال الثورة الجزائرية وتخفيف الرقابة عن أرشيف الاستعمار، إلا أنه لم يصل إلى تقديم اعتذار رسمي وشامل عن الجرائم الاستعمارية التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر (1830-1962).
كان الاعتراف فرنسي بمغربية الصحراء القطرة التي أفاضت الكأس في العلاقة بين البلدين لما شكله هذا الموقف امن انحياز واضح للمغرب في نزاع إقليمي حساس. هذا الموقف سيُفسَّر في الجزائر على أنه إهانة مباشرة لمواقفها وجهودها الدبلوماسية في إطار الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وبالفعل أدى هذا الوقف الذي يُناقض الحياد المطلوب دوليًا وجزائريا إلى تصعيد التوترات السياسية بين البلدين.
توظيف قضية بوعلام صنصال
في منتصف نوفمبر، اعتُقل الكاتب الجزائري-الفرنسي بوعلام صنصال (75 عاما) في مطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة عند وصوله من فرنسا.
وأودع صنصال رهن الحجز المؤقت على ذمة التحقيق المتعلق بتصريحات سابقة اعتُبرت مثيرة للجدل ومُسيئة لتاريخ الجزائر ووحدتها الوطنية، حيث قال فيها إن “مدنا بالغرب الجزائري كانت تاريخيا جزءا من المغرب مثل تلمسان ووهران ومعسكر”.
يعتبر بوعلام صنصال، المعروف بمواقفه المثيرة للجدل وانتقاداته للنظام الجزائري، شخصية مثيرة للانقسام في الجزائر، وهو ما قد يجعل قضيته أداة محتملة في المناورات الفرنسية، ومع ذلك فإن توظيف شخصية غير شعبية لدى شريحة واسعة من الجزائريين بسبب مواقفه المثيرة للجدل، خاصة موقفه المؤيد للتطبيع مع إسرائيل، لايمكنه تحقيق مكاسب حقيقية بل على العكس فقد أتى بنتائج عكسية زادت من حدة تعقيد العلاقة بين البلدين وسممت آخر فرص للتقارب .
فرنسا الخاسر الأكبر من القطيعة
تسببت التوجهات الخاطئة للسياسة الخارجية الفرنسية في عهد ماكرون بتبعات سلبية كبيرة على المصالح الفرنسية بالنظرًا للأهمية الاستراتيجية التي تمثلها الجزائر بالنسبة لفرنسا على المستويات الاقتصادية، السياسية، الأمنية، والثقافية، ومن خلال النقاط التالية يمكن حصر أهم الخسائر التي قد تواجهها فرنسا بعد وصول علاقاتها مع الجزائر الى مستوى القطيعة :
الخسائر الاقتصادية: لطالما كانت الجزائر سوقًا مهمة للشركات الفرنسية. تمتد المصالح الاقتصادية الفرنسية في الجزائر لتشمل قطاعات مختلفة مثل الطاقة والبنية التحتية والصناعة والخدمات. الجزائر تعتبر من أبرز الدول المنتجة للغاز الطبيعي، وفرنسا تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة لتعزيز أمنها الطاقوي. قطيعة مع الجزائر قد تدفع باريس للبحث عن بدائل أكثر تكلفة وأقل استقرارًا.
الخسائر الجيوسياسية: تُعتبر الجزائر لاعبًا محوريًا في شمال أفريقيا، ولها تأثير كبير على المستوى الإقليمي والدولي. فرنسا كانت تاريخيًا تعتمد على علاقتها مع الجزائر لتعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة في ظل التنافس مع قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا. فقدان الجزائر كشريك استراتيجي سيُضعف قدرة فرنسا على لعب دور محوري في القضايا الإقليمية مثل مكافحة الإرهاب أو إدارة الهجرة.
الخسائر الثقافية والاجتماعية: هناك روابط إنسانية وثقافية عميقة بين البلدين. الجالية الجزائرية في فرنسا والجالية الفرنسية في الجزائر تلعبان دورًا محوريًا في تعزيز التفاهم المشترك. لكن الأزمة قد تؤدي إلى تصاعد التوترات الاجتماعية داخل فرنسا، خاصة في ظل تنامي الخطاب الشعبوي. كما أن العلاقات الثقافية، التي تشمل تعليم اللغة الفرنسية وتعزيز الثقافة الفرنسية في الجزائر، قد تتأثر بشدة.
الخسائر الرمزية والتاريخية: الأزمة قد تعمق الجروح التاريخية بين البلدين. الجزائر تنظر إلى الماضي الاستعماري الفرنسي بعين الناقد، وفرنسا لم تُظهر دائمًا الاستعداد الكافي للاعتراف بمسؤوليتها عن هذا الإرث. تعثر العلاقات يُضعف أي فرصة لتجاوز هذه المرحلة التاريخية المؤلمة.
يمكن القول إن فرنسا تخسر أكثر من مجرد شراكة مع الجزائر؛ إنها تخسر جزءًا من نفوذها في منطقة طالما اعتبرتها ضمن نطاق مصالحها الاستراتيجية ولذلك فإن استعادة ثقة الجزائر تتطلب من فرنسا تحولات جذرية في نهجها السياسي، الاقتصادي، والدبلوماسي، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية الجزائر كدولة ذات سيادة ورؤية استراتيجية خاصة.