أوروبا

فرنسا أمام زمان سياسي جديد

في حالة اختلاف توجه الرئيس وتوجه الأكثرية الحاكمة، تتضح الأمور أكثر، إذ ببروز الاختلاف في التوجهات تبرز الاستقطابات أكثر – أساساً بين كتلة اليسار وكتلة اليمين

خلافا لما يروج له البعض، ليس ما يجري في فرنسا حاليا «أزمة نظام». فمن يرد الواقع السياسي الفرنسي إلى «منطق الأزمة» يستمر في ربطه بفهم تقليدي يقوم على تغليب منطق الأحزاب على منطق التحالفات وهنا يكمن الخطأ.
الخطأ الجسيم الذي ترتكبه غالبية قيادات الأحزاب الفرنسية وبعضها عمدا عندما تخلط بين النتائج الانتخابية التي تحققها التحالفات والنتائج التي تحققها الأحزاب.

هنا بيت الداء. بيت الداء الذي يبعد آليات السياسية الفرنسية في ممارساتها عن ركائز الممارسات التي دخلتها معظم دول المنظومة الأوروبية. فكون فرنسا لم تدخل إلى «برمجيتها» السياسية منطق «التحالف» بدل منطق «التحزب» شوكة تؤصلها في نظام سياسي قديم لو سقط لسقطت معه الادعاءات بوقوع «أزمة نظام»!

كل المشكلة في نهاية المطاف متجذرة في تقصير فرنسا عن دخول حداثة سياسية دخلتها ألمانيا مثلا منذ زمن بعيد! فلننظر إلى حالة حزب الخضر هناك وقد شكل أحد أقطاب الطبقة السياسية المترعرعة في تاريخ من الحياة السياسية العريقة، نحن هنا أمام طبقة عرفت كيف تبتعد عن «معترك سياسي» ونرى كيف تقود هذه الطبقة ما يسمى بـ«أغلبيات مشاريع» قائمة على تفعيل مخططات ترتكز على التصويت على نصوص القوانين نصا نصا.

حينها، تفقد الآلية المعروفة بـ«ملتمس الرقابة» الكثير من فعاليتها – إن جاز استعمال هذا التعبير لأن فعالية ملتمس الرقابة الوحيدة فعالية التجميد.

أما نحن هنا في فرنسا، فلا نعلم حتى ما إذا كانت الحكومة التي سيشكلها رئيس الوزراء الجديد ميشيل بارنييه ستدوم أكثر من ثلاثة أشهر.

المشكلة ليست جديدة، وتكمن في أننا، كما أثبته جيدا وزير الصناعة الفرنسي الأسبق جيرار لونجي عضو مجلس الشيوخ الفرنسي حالياً، لا نعرف طريق الانتقال من ديمقراطية رئاسية إلى ديمقراطية برلمانية.

أجل. لم يعد كافيا أن نتحدث عن الديمقراطية بمفهومها المعتاد، فضمان الحريات الفردية والعامة يجاور ضمان حقوق الناخب. ومن هذا المنطلق، أصبح من العاجل مراعاة أكثر آلية التعبير عن حقوق الناخب الأسمى، ألا وهي التمثيلية البرلمانية.
لهذا، لا يجب أن يستغرب المرء من الفترة العصيبة التي تمر بها فرنسا في تحولها من نظام رئاسي إلى نظام برلماني. هنا، يجب التذكير بأن النظام البرلماني هو الذي طبع الجمهورية الفرنسية الرابعة ولم يمنع تداول الحكومات فيها أبدا من تمرير القوانين عبر المصادقة عليها في الجمعية الوطنية.

قد يقول قائل ماذا عن صلاحيات الرئيس إذن؟ صحيح أن أدبيات الجمهورية الخامسة تحدد صلاحيات الرئيس على مستويين، مستوى ما يسمى بالمجال الخاص المتعلق بالخارجية والدفاع، لكن أيضا على مستوى أن يعود لرئيس الجمهورية القول الفصل في حسم الملفات الشائكة…. مثل تعيين رئيس الوزراء.

إقرأ أيضا :كيف سخّر الحوثيون المساعدات الأممية لليمنيين لصالحهم؟

وهنا، كثيرا ما تنسى المادة 20 من الدستور الفرنسي وهي التي تفيد بأن «رئيس الوزراء يحدد ويقود سياسة الأمة».
في حالة توافق الأكثرية الحاكمة مع الاتجاه السياسي لرئيس الجمهورية، من الطبيعي أن تنسى صلاحية رئيس الوزراء هذه، كونها غالبا ما تكون في تناغم تام سياسة الرئيس.

لكن في حالة اختلاف توجه الرئيس وتوجه الأكثرية الحاكمة، تتضح الأمور أكثر، إذ ببروز الاختلاف في التوجهات تبرز الاستقطابات أكثر ـ أساساً بين كتلة اليسار وكتلة اليمين، ونقع هنا في ما يسمى بالتعايش.

لكن ما هو مطروح الآن هو السؤال التالي: هل بقيت حالة التعايش قابلة للاستمرار على الطريقة التي اعتدناها تقليديا؟
لقد دخلت مجمل التشكيلات السياسية في أوروبا زمانا سياسيا آخر، يصحح التشرذم الحزبي بإقامة تحالفات بيدها المضي بمشاريع الأمة قدما.

هذه، أصول حكم جديدة. فأين فرنسا منها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى