الجزائر

فرصة تبون لتطهير البيت من الشوائب

كانت انتخابات العام 2019، محطة لملء الفراغ وفرضت التوازنات نفسها، لأن البلاد كانت في منعطف متعدد المخارج، لكن انتخابات 2024 بإمكان الرئيس تبون أن يجعل منها محطة لتثبيت مسار صحيح، ما دامت كل الأوراق الشرعية بين يديه، فهي علاوة على أنها ولاية ثانية تدخل في حقه وصلاحياته الدستورية، يمكن أن يدخل بها التاريخ إذا استغلها لوضع كل شيء في مكانه

تابع الجزائريون كيف تلاعب مسؤولون بوعود الرئيس عبدالمجيد تبون لسكان ولاية (محافظة) تيارت، بالتكفل السريع بأزمة التزويد بماء الشرب وتخصيص مبلغ 200 مليون دولار لتنفيذ برنامج استعجالي، فالتعهدات التي أنجزت تحت عيون الكاميرات سرعان ما انفضح أمرها وتحولت إلى غضب شعبي متجدد، لا يحرج الحكومة برمتها ولا المسؤولين المحليين، بقدر ما يضع الرجل المقبل على ولاية رئاسية ثانية أمام اختبار مصداقية حقيقي أمام سكان تيارت وأمام عموم الجزائريين.

وليس بعيدا عن ولاية تيارت، أصدرت سلطات ولاية المسيلة بيانا استباقيا تخبر فيه مواطنيها أنه تم “رصد خلال العامين الأخيرين نحو 300 مليون دولار، من أجل التزويد وتوزيع وتوفير الماء لهم، وأن المصالح المختصة والمؤسسات المعنية ساهرة على ضمان ذلك”، وهذا مؤشر بقدر ما يعكس حجم التحويلات المالية للنهوض بمختلف الخدمات، بقدر ما يعكس حجم التقاعس والإهمال الذي يدب في أوصال الدولة.

معارضون وحتى موالون للسلطة، أكدوا في أكثر من مرة أن هرم الدولة لا يجب أن ينام، لأن التقارير الصاعدة إليه من مختلف الدوائر والمؤسسات فيها من الزيف والتحريف ما فيها، وأن الصور الوردية المرسومة فيها لا تعكس الحقيقة، وأن الفساد والإهمال والتقاعس عن أداء المهام المنوطة بأصحابها ظاهرة بأبعاد أفقية وعمودية، فكما يسهل التضحية بالحلقة الضعيفة، هناك أيضا من يتحرك في محيطه وفريقه المقرب ويحرص على حجب الحقيقة.

لم تتح فرصة تسبق الحملة الانتخابية تحسبا للموعد الرئاسي كهذه الفرصة، للانتباه لتلك الشوائب العالقة في كل مكان، ومباشرة حملة تنظيف واسعة بالطول والعرض، خاصة أولئك الذين اعتقدوا أنهم وكلاء الرئيس في التعاطي مع الشأن العام، وإلا لما أقدم وزيران في الحكومة ووالي ولاية، ومسؤولين من مختلف المستويات بالكذب على السكان والاستناد على عكاز رئيس الجمهورية.

الوضع ليس ورديا باللون الذي تروّج له الخطابات الرسمية ولا وسائل الإعلام، وإنما البلاد في حاجة إلى ثورة حقيقية لتحقيق تغيير شامل، وذلك لا يتحقق بالممارسات البائدة والوجوه التي تهوى ركوب الأمواج، فمن كان يرافع للعهدة الخامسة للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، هو من يروج الآن للعهدة الثانية، ولا يهمه في ذلك إلا استمرار مصالحه الضيقة ونفوذه وموقعه، ولا ضير عندهم في استعمال الشعارات الرنانة وارتداء ثوب الوطنية وحب الوطن، ورمي الآخرين بالعمالة وخدمة المصالح الأجنبية.

سيحتفظ الجزائريون بدهاء الرئيس الراحل بوتفليقة، فلما وجد نفسه يخوض سباق الانتخابات الرئاسية في ربيع العام 1999، وحيدا بعد انسحاب المنافسين وشعوره بحرج سياسي كبير أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، صنع لنفسه هالة بعد أشهر قليلة ونظم استفتاء شعبيا حول “الوئام المدني” لمعالجة الأزمة الأمنية آنذاك، فجاءت النتيجة عريضة وتزكية من الجزائريين لشخصه، فنسوا آيت أحمد وطالب الإبراهيمي ومولود حمروش.. وغيرهم.

وإذ تأخر الرئيس تبون في ترميم شرخ الشرعية الشعبية التي لفّت انتخابات 1999، ولم يبادر بأيّ خطوة تقطع مع تلك الظروف والملابسات، فإن الفرصة الآن لاستمالة الجزائريين إلى صفه لا مثيل لها، عبر القيام بخطوات جريئة تبدأ من تنظيف محيطه وبيته من الرموز والوجوه التي تسوّد صورة الدولة في عيون أبنائها.

عادة ما يعتبر الرؤساء الفائزون في الاستحقاقات الرئاسية أنفسهم رؤساء لشعوبهم ومواطنيهم دون استثناء، وليسوا رؤساء لأنصارهم والموالين لهم، وهذا الذي ينتظره كل الجزائريين من رئيس بات في حكم الأمر المحسوم، لا أن يضع أذنه في أفواه ذلك المحيط والفريق الذي فيه من جاء على قناعة، وفيه من جاء راكبا الموجة، وفيه من جاء لأغراضه ومصالحه وتصفية حساباته.

تبون الآن في موقع قوة، رئيسا ومرشحا، والفرصة مواتية لترتيب وتنظيف البيت من الشوائب العالقة، لأن البلاد في حاجة إلى جميع أبنائها بمن فيهم أولئك الذين تعففوا عن التمسح برداء السلطة أو عارضوا خياراتها وتوجهاتها، ولا ضير في توسيع صدره لأولئك الذين أحبوا وطنهم بطريقتهم الخاصة، حتى لا يكونوا ضحايا لمرتين الأولى لمواقفهم والثانية للوساويس التي تعشش في بيت السلطة، لأنها تدرك أنه في وسط هؤلاء قدرات وكفاءات بإمكانها تقديم الإضافة الحقيقية للوطن، لولا الجدران المنتصبة بينها وبين مصدر القرار.

سقط أحد مقربيه في قصر المرادية، وقبله سقط مسؤولون ووزراء لأسباب غير معلومة، وتغيرت حكومات وأجريت حركات في مختلف المؤسسات لكن لا زال الكذب على الرئيس جاريا، ولا أفضل من هذه الفرصة لتنظيف المحيط، لأن المسؤولية السياسية والأخلاقية يتحملها الرجل وحده أمام الشعب، وأما هؤلاء فهم مستعدون للقفز من المركب في أيّ لحظة استعدادا لركوب مركب آخر وهكذا دواليك.

كانت انتخابات العام 2019، محطة لملء الفراغ وفرضت التوازنات نفسها، لأن البلاد كانت في منعطف متعدد المخارج، لكن انتخابات 2024 بإمكان الرئيس تبون أن يجعل منها محطة لتثبيت مسار صحيح، ما دامت كل الأوراق الشرعية بين يديه، فهي علاوة على أنها ولاية ثانية تدخل في حقه وصلاحياته الدستورية، يمكن أن يدخل بها التاريخ إذا استغلها لوضع كل شيء في مكانه، بداية من تطهير المحيط الدائر به والالتفات إلى كل الجزائريين بمختلف مشاربهم ومرجعياتهم.

الآن أمام تبون فرصة تاريخية، لتحويل ما كان يشكل عليه ضغطا لإرضاء الفاعلين، إلى ضغط يمارسه هو على هؤلاء للانخراط في المسار الذي يحدده، لأن الشرعية سيمنحها إياها بعد أشهر قليلة الشعب الجزائري، وليس الدوائر الجاثمة في مفاصل الدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى