غزة

غزة.. والتباس مفهوم الصمود

تشبث سكان غزة بالحياة مع. كل ما جرى من قتل ممنهج واقتلاع لأحياء بكاملها، هو انتصار لقيم الحياة لدى سكان غزة في مواجهة حرب عدوانية.

لا يخلو تصريح أو حديث أو مقال أو رأي لفرسان الفصائل، يتعلق بالمحرقة التي ما تزال تستهدف أهل غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى الآن، إلا ويشيدون بما يسمونه الصمود الأسطوري لشعب غزة في مواجهة ما يتعرضون له من مذابح وتنكيل وحصار وتجويع واحتضانهم المقاومة.

هذا الحديث عن الصمود يقرر واقعا موضوعيا يتعلق بمقدار صبر وتحمل أهل غزة كل هذا التوحش من قبل الكيان الصهيوني ،لكنه توصيف فيه تجويف مخل لمفهوم وشرط الصمود كون الصمود يجب أن يكون قرارا واعيا في حضور خيارات أخرى للنجاة، ولأن ذلك لم يكن قائما مطلقا، لذاك كان من الطبيعي ارتباطا بشرط الحياة ومواجهة استمرار هذا النزيف الذي يطالهم ويجعل من فكرة بقائهم على قيد الحياة بالمعنى الفردي والجمعي في قطاع غزة الذي لم يبقى فيه مكانا أمنا على الإطلاق أمام تحول القطاع إلى ميدان رماية لكل صنوف آلة العدو العسكرية، التي جعلت من قطاع غزة حسب الخبراء مكانا لا يصلح للعيش، مسألة تستحق المحاولة.

اقرأ أيضا| هل سنشهد تحول في الموقف الأمريكي من حرب غزة؟

ومن ثم فإن بقاء أهل القطاع في نزوحهم المستمر بين مناطقه محدودة المساحة بحثا عن الأمان النسبي في مكان تحول إلى كتلة من النار هو نوع العبث، ولكنه أمر يستحق السعي من أجله لاستمرار الحياة دون تفاؤل كبير بطولها، في ظل أنه ما من مكان آمن على الإطلاق في كل ال 365 كيلو متر مربع، التي هي كل مساحة قطاع غزة، وربما هذا هو ما جعل أطفال غزة يكتبون أسماءهم على أجسادهم حتى يمكن التعرف عليهم عند استشهادهم الذي يمكن أن يداهم أي شخص في غزة في أي لحظة.

هذا التسليم بمواجهة الفلسطيني في غزة قدره بهذا الشكل كونه لا توجد أي خيارات أخري تحقق ثنائية الصمود الواعي والتمسك بالحياة، التي تعني الانتصار على فكر النفي المادي والمعنوي الذي يمارسه الكيان الصهيوني انتقاما من أهل غزة، لكنه في الجوهر يعكس عجز وربما تخلي السلطة الحاكمة في القطاع عن واجبها في حماية الناس وتركهم لمصيرهم المجهول الذي جعل من غزة مدينة منكوبة بعد تدمير بنيتها التحتية وعشرات آلاف الوحدات السكنية وما يقارب ال140 ألف بين شهيد ومفقود ومصاب، أي ما يعادل 6 % من سكان القطاع.

وإنه لعسر فكري أن يجري الحديث بعد ذلك عن الصمود الذي هو خيار واعي تماما، في حين أن توصيف أي فعل على أنه صمود لابد أن يرتبط بوجود خيارات أخرى متاحة أمام هذا الغزي . أي أن تكون هناك طرق متعددة لمغادرة جحيم القطاع سواء كانت بحرية أو جوية أو برية، وربما خيارات أخرى شرعية كانت أو غير شرعية.

كان من الممكن أن تفتح نوافذ لخيارات إضافية للحياة، عوض الخيار الوحيد وهو الحصار داخل هذا السجن الكبير قطاع غزة، وخيار واحد هو للموت وإن تعددت وسائله، أي إما الموت عبر قناص أو طائرة أو دبابة أو مدفعية أو الموت تحت أنقاض بيتك أو جوعا، ليكون الحديث بعد ذلك، عن الصمود كمفهوم واعي، وتعبير عن إرادة حرة في غياب معطياته هو عبث وتضليل.

ذلك أن البقاء القسري في ظل المحرقة هي بمثابة إكراه مباشر وغير مباشر من قبل العدو لسكان القطاع الذين أجبروا على التحايل على المحرقة بدوافع غريزية إنسانية من أجل البقاء على قيد الحياة، وهو البقاء الذي يعتبر في ذاته صمودا ذاتيا كتعبير عن إرادة الحياة في مواجهة آلة القتل الصهيونية اليهودية.

ومع ذلك نجد أن هناك من يتاجر بهذه المعاناة الإنسانية ولتعويض التقصير وغياب روح المسؤولية في جانبيها الوطني والإنساني بتخليه عن دوره كمسؤول، بل إنه لا يتوانى عن تسويق ما يعيشه أبناء غزة من ظلم وقهر وموت على أنه صمود، يسجل لصالح مشروعه السياسي ومقاربته الأيديولوجية، في حين أن بقاء أهل غزة بمدنه المختلفة ونزوحهم من مكان إلى آخر على مدار تسعة أشهر كان خيارا إجباريا بفعل سياسة القهر التي يمارسها الاحتلال، وفي كل مرات نزوحة كان الصمود بالنسبة له أن يفشل مخطط العدو في مصادرة حياته وحياة عائلته بأن يبقى حيا.

فيما هتاف البعض وضجيج إعلامهم يمارس هذا الاستثمار الرخيص لمستوى الدمار والموت والخراب الذي لم يسبق له مثيل بسبب المقاربات الخطأ التي دفع سكان غزة ثمنها الباهظ على مساحة عدة أجيال قادمة.

إن تشبث سكان غزة بالحياة مع. كل ما جرى من قتل ممنهج واقتلاع لأحياء بكاملها، هو انتصار لقيم الحياة لدى سكان غزة في مواجهة حرب عدوانية كانت بامتياز تستهدفهم في ذاتهم وأنهم رغم الخذلان والثمن غير المسبوق الذي دفعوه وحدهم في مواجهة النازية الصهيونية الجديدة يواجهون قدرهم وحدهم بشجاعة وصبر منقطع النظير كي تنتصر الحياة على الموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى