غزة فضحت هذا العيب فينا
افتقار الشعب الفلسطيني إلى حركة تحرر وطني ومؤسسات جامعة، تستطيع تحويل أي هبة إلى عمل مؤسس ومنظم، علاوة على ارتفاع وتيرة القمع والتنكيل التي تواجه التجمعات الفلسطينية الأخرى.
الحرب الإسرائيلية على غزة لم تنته، إنما الذي انتهى بالفعل هو اهتمام البعض بأهل غزة ومعاناتهم، رغم أن الحرب ازدادت ضراوة ووصلت حد الإبادة الجماعية.
أظهرت الحرب بشكل لا لبس فيه عيبا ينخر فينا حتى العظم هو “النَفس القصير”، فنحن سريعا ما نثور وسريعا ما نخبو.
إن جولة قصيرة في مدن فلسطينية وعربية تبدي للناظر تلاشي التضامن مع غزة، فلا نشاطات نصرة لها إلا قليلا.
اقرأ ايضا| الحرب الدموية والإجرام الوحشي الرهيب في غزة
في بداية الحرب، كانت التظاهرات صاخبة والأصوات عالية والهمم في السماء والكل مع غزة، وسرعان ما اضمحل ذلك كله تدريجيا، خاصة مع دخول الحرب مرحلة من الجمود.
في المقابل، تبدو حركة التضامن الغربية محافظة على وتيرتها نوعا ما، إذ شهدت الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لإسرائيل حركة تضامن قوية حتى يوليو الجاري، كان من بينها تظاهرة أمام مصنع يمد إسرائيل بالأسلحة بولاية تكساس، وخرجت تظاهرات داعمة لغزة في هولندا وألمانيا وبريطانيا، وكلها دول حليفة لدولة الاحتلال.
الأمر لا يقتصر على التظاهر فحسب، بل على كل أشكال التضامن بما في ذلك الكتابة في العالم الافتراضي.
ما السبب في ذلك التراجع؟ في تقديري المتواضع، لا يوجد سبب واحد يفسر ذلك، فلكل منطقة دوافع وكوابح تتحكم في السلوك الفردي والجماعي إزاء العدوان على غزة.
من الأسباب التي تفسر التقهقر في التضامن مع غزة هو فكرة “لا يهم”. لقد كتب العالم المصري الراحل، جلال أمين، عن شعوب كثيرة تتبنى فكرة “لا يهم” بمعنى أنه مهما فعل الإنسان وكيفما فعل، فذلك لن يؤدي إلى نتيجة.
ربما يكون في هذا التفسير بعض المنطق، فدول كبرى لم تتمكن علنا من وقف الحرب (قد يتعلق الأمر بعدم رغبتها أيضا لكن الأمرين سيان)، لكن المنطق يقول أيضا إن التضامن مع غزة، وإن كان بأبسط الأشكال مثل المكالمة الهاتفية أو التبرع أو الوقفة التضامنية يشعر سكان غزة بأنهم ليسوا وحدهم.
في المقابل، تتواصل في دولة الاحتلال المسيرات المطالبة بعقد صفقة مع حركة حماس بزخم كبير ومستمر منذ أشهر. هل أفضت هذه المسيرات إلى رضوخ حكومة الاحتلال؟ لغاية الآن لا، لكن استمرارها ضغط على الحكومة، وفي أدنى الأحوال تبقي القضية بعيدا عن النسيان.
وقد يساعد في تفسير الأمر، افتقار الشعب الفلسطيني إلى حركة تحرر وطني ومؤسسات جامعة، تستطيع تحويل أي هبة إلى عمل مؤسس ومنظم، علاوة على ارتفاع وتيرة القمع والتنكيل التي تواجه التجمعات الفلسطينية الأخرى، وإن كانت لا تقارن بما يجري في غزة.
وفي الوطن العربي، ثمة انهيار واسع لدول كانت كبيرة ومؤثرة ذات يوم بعد عام 2011، لذلك فالتضامن العربي أضعف مما كان عليه في الانتفاضة الثانية عام 2000، والانتفاضة الأولى عام 1987، وحرب أكتوبر عام 1973، على أن التضامن العربي أصلا كان ضعيفا في تلك الحقب التاريخية. وهذه الأسباب بالطبع ليست كل شيء.
هذا المقال لا يدعو إلى المستحيل، لكن فكرته ببساطة أن العزيمة القصيرة المدى مشكلة جسيمة، للفرد قبل المجتمع، فهي سرعان ما تقضي على المشاريع والأفكار التي يتفتق عنها ذهنه. ليس مطلوبا من الإنسان أن يوقف حياته من أجل غزة، بيد أن عليه أن يفكر لمدى أبعد وينظم تضامنه مع الشعب المكلوم هناك بما يتجاوز فكرة “الفزعة الآنية”، ذلك أن الأمر فائدة لنفسه قبل غيره، فالحياة مليئة بالمفاجآت وما هو ثابت اليوم لن يكون كذلك غدا.