مما لاشك فيه أن ظروف الحروب بما تفرضه من واقع سياسي واجتماعي واقتصادي بالقهر والضغط والتهديد، تشكل اعتداء على كرامة الإنسان وحريته وقيمه، وتصبح جزءاً من مكونات العقل الجمعي للشعوب، والتي تُحمل مآسيها من قبل الأفراد على امتداد زمني طويل، وتكون بمثابة جزء من خبراتهم التي تنعكس آثارها على كافة جوانب الشخصية الإنسانيةـ، وعلى حياة المجتمعات.
لقد أدت ظروف الحرب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة إلى خلق أوضاع وأحداث توترية عنيفة، وخلقت واقعاً قاسياً كان وسيكون هو العنصر الفعال في تشكيل الواقع النفسي للفلسطينين، وستشكل نتائج هذه الحرب صدمة ستضاف إلى سلسلة الصدمات التي تعرض لها الفلسطينيون خلال سنوات الاحتلال الطويلة والتي تركت تراكمات شخصية، وجمعية حتماً ستعود إلى ذاكرة أحداث نكبة 1948، التي فقد الفلسطينيون فيها أرضهم وبيوتهم وأملهم في مستقبل طبيعي.
قمنا ضمن فريقنا البحثي (أ.د جولتان حجازي، د. تمارا مصلح وآخرين) بإجراء دراسة بعنوان “ضغوط النزوح وعلاقتها بالمشكلات النفسية والاجتماعية لدى البالغين في الأسر النازحة في محافظات قطاع غزة”، أجريت الدراسة على عينة عنقودية تم اختيارها لتمثل عنقوداً كاملاً من مخيمات النزوح في محافظة خانيوس، مع ملاحظة أن كل مخيم نزوح يشمل مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني التي تعيش ضمن نفس ظروف النزوح، وتعرضت وما زالت لكل أشكال العنف الإسرائيلي، ومن خلال تحليل نتائج الدراسة تبين أن المعاناة من ضغوط النزوح جاءت بدرجة كبيرة جداً وفقا للمحك المعتمد في الدراسة، وتمثلت أهم هذه الضغوط، في:
-92.20 % يعانون من الضغوط الأمنية التي تمثلت في: انعدام الشعور بالأمان في مكان النزوح بسبب الظروف الأمنية غير الآمنة وغير المستقرة (القصف العشوائي من الطائرات والدبابات وأبراج المراقبة- إطلاق نار- …..)، وشيوع العنف المجتمعي، وانتشار السرقة، وبالتالي الشعور بالتهديد على سلامة أفراد العائلة جراء أوضاع السكن غير الآمنة،وانعدام توفر الأمن الغذائي.
-90.07 % يعانون من الضغوط الشخصية التي تمثلت في: فقدان الاستقرار والتشتت، والعجز عن اتخاذ أي قرار مرتبط بالحياة والمصير، والشعور بقلق المستقبل وغموضه، والخوف من فقدان الحياة والأشخاص والموارد، وفقدان الممتلكات والنزوح المتكرر، والعمل بشكل دائم تحت الضغط لإنجاز الأمور المتعلقة بمطالب الحياة واحتياجاتها، والتحسر الدائم لعدم القدرةعلى العمل ضمن الوظيفة أو التخصص، والمعاناة من الأرق وفقدان جودة النوم، وإهمال الذات وفقدان الاهتمام بالمظهرالشخصي .
اقرأ أيضا| قطاع غزة بين البعد الإداري وسبل تعزيز الصمود
-86.50 % يعانون من الضغوط الاجتماعية التي تمثلتفي: صعوبة تكوين علاقات اجتماعية جديدة في مكان النزوح،وفقدان القدرة على التكيف مع السلوكات الجديدة في مكانالنزوح، والشعور بالاغتراب النفسي، والانفصال عن المجتمع بسبب العنف السائد في كل مكان، وفقدان الدعم والمساندة والشعور بالخذلان، والشعور بالحنين للبيت والأهل والجيران والأصدقاء والأقارب الذين شكلوا العالم الاجتماعي قبل النزوح، وفقدان الهدوء بسبب الضوضاء والصراخ والباعة المتجولين وموتورات التوليد، وتحول الحياة لغابة لا تحتكم إلى قيم وعادات المجتمع الفلسطيني.
-87.86% يعانون من الضغوط الاقتصادية التي تمثلت في: تدني مستوى الدخل أو انعدامه (أفاد 53% أن دخلهم الشهري أقل من 1000 شيكل)، وكثرة متطلبات الحياة وارتفاع الأسعار الفاحش، وصعوبة الحصول على فرص العمل، وبالتالي صعوبة تأمين مصدر دخل مناسب، والعجز عن توفير الاحتياجات الأساسية مثل: الغذاء والمأوى والرعاية الصحية، خاصة في ظل سياسة التجويع التي استخدمتها إسرائيل خلال هذه الحرب، واستغلال المساعدات، وعدم العدالة في التوزيع، واحتكار السلع، ما أدى إلى العجز عن توفير متطلبات العائلة من مسكن ملائم،وغذاء وملابس وخدمات صحية تعليمية.
-90.80% يعانون من الضغوط الخدماتية التي تمثلت في: عدم ملاءمة مكان السكن في النزوح وصعوبة الوصول إلى مراكز الخدمات الصحية اللازمة، ونقص الأدوية والعلاج، وعدم توفر شبكات الصرف الصحي المناسبة، وتكدس النفايات، وعدمتوافر المياه الصالحة للشرب، وانقطاع التيار الكهربائي بشكل دائم، وعدم توافر الطاقة البديلة، وضعف شبكات الإنترنت والاتصالات، وعدم توفر وسائل المواصلات الآمنة والمريحة، وتوقف العملية التعليمية، وعدم توافر خدمات وإمكانيات للاستمرار فيها.
-83.31% يعانون من الضغوط الأسرية التي تمثلت في:توتر العلاقات بين أفراد الأسرة، وغياب المساندة الأسرية، وكثرة المشاحنات داخل الأسرة، وافتقاد التواصل العاطفي، والتواجد الجسدي لبعض أفراد الأسرة بسبب الانفصال المكاني، وشيوعحالة التبلد الانفعالي، وغياب الاستقرار العاطفي بين أفراد الأسرة، والشعور بالعجز عن حماية الأسرة.
بينت نتائج الدراسة وجود علاقة ارتباطية موجبة بين التعرض لضغوط النزوح والمشكلات النفسية والاجتماعية، حيث جاءتدرجة المعاناة من المشكلات النفسية والاجتماعية بدرجة كبيرة جداًوفقاً للمحك المعتمد في الدراسة، وتمثلت أهم المشكلات التي عاني منها أفراد العينة في:
القلق (85.16% )، والتشاؤم (82.92%)، واضطراب الضغوط التالية للصدمة (81.75%)، والاغتراب (81.15%)، والاكتئاب (80.41%)، واللامعيارية (78.35%)، والأعراض السيكوسوماتية (78.27%)، والانطواء الاجتماعي (77.39%).
عُززت هذه النتائج بنتائج المقابلات الشخصية التي أُجريت مع عدد من البالغين النازحين، وقد أجمع هؤلاء على معاناتهم من كافة الضغوط الأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والخدماتية، والشخصية، كما أجمعوا على معاناتهم من القلق والاكتئاب والتشاؤم والاغتراب واللامعيارية، ومن عدد من الأعراض السيكوسوماتية كالصداع والقولون العصبي والغثيان وغيرها.
تشكل هذه النتائج مؤشرات للواقع النفسي والاجتماعي للفلسطينيين في قطاع غزة في ظل حرب الإبادة الجماعية حسب تصنيف القانون الدولي الدائرة منذ أربعة عشر شهراً (أكتوبر 2023- ديسمبر 2024)، ونحن نضعها بين أيدي المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والدولية علّها تشكل رسالة لاستشعار الخطر نحو معاناة شعب أعزل ترك يجابه ويلات الحرب بلا حماية وبلا أية مقومات حياة.