غزة بين الأيديولوجيا والإنسانية
المعادلة التاريخية للصراعات تشير إلى أن هناك فارقاً كبيراً بين المستعمر والثائر، فالأول لا يكترث لمصلحة المدنيين، بينما يضع الثائر على الاستعمار مصلحة المدنيين نصب عينيه، لأنه لا يمكن أن تكون نتائج الثورة والاستعمار على المدنيين واحدة
قبل سنة من الآن كان نتنياهو رئيس الوزراء الأشهر في تعطيل الاتفاقيات السياسية، واليميني الأبرز الذي أعاد تفصيل حزب الليكود على مقاسه، والذي أخذ على عاتقه منذ أول حكومة له منع قيام دولة فلسطينية، كان يبحث عن طوق النجاة، بعدما امتلأت شوارع تل أبيب بمئات آلاف من المتظاهرين، نتيجة خطة التعديلات القضائية، إضافة إلى المطالبة بعزله بسبب ملفات الفساد التي كان يحاكم عليها، ولم يكن هناك ما يمكن أن ينقذ حكومة نتنياهو من السقوط إلا قيام حرب جديدة، والتي تفرض بحسب القانون الإسرائيلي إقامة حكومة وحدة وطنية، وتأجيل كامل الملفات العالقة إلى ما بعد الحرب.
بذلك التوقيت بالضبط جاءت أحداث السابع من أكتوبر، والتي أنقذت نتنياهو من السقوط، في وقت كان فيه اليسار الإسرائيلي أقرب إلى السلطة من أي وقت، وكان يمكن الذهاب إلى عملية سياسية ناجحة.
النتائج المأساوية على الأرض معلومة، وحجم الكارثة الإنسانية على صعيد الضحايا والجرحى هي الأكثر عبر تاريخ النضال الفلسطيني، ثم إن التعامل مع نتائج هذه الحرب قبل وبعد انتهائها سوف تكون واحدة من أغرب سجلات التاريخ، فالمطلوب 15 سنة حتى يتم إزالة 42 مليون طن من الأنقاض، فيما يحتاج إعمار 79 ألف منزل مدمر 80 عاماً بحسب الأمم المتحدة.
بينما تبقى النتائج في العقل السياسي لحركة حماس بعد سنة من ذلك اليوم، جاءت من خلال ظهور نائب مسؤول المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية في كلمة متلفزة، وفي خلفية الصورة أثناء إلقاء كلمته كانت هناك لوحة مكتوب عليها ” طوفان حتى التحرير”، حيث تحدث مشيراً إلى أن عملية السابع من أكتوبر كانت “ملحمة بطولية وطنية كبرى على طريق التحرير وزوال الاحتلال..”، وصولاً إلى قوله “ما رفضناه بالأمس لن نقبله في الغد” وهو ما اختصر به المشهد من أن المفاوضات سوف تبقى عالقة في مكانها، حتى تنسحب إسرائيل من غزة، واستعادة المعبر، وهو ما رد عليه نتنياهو بعد ساعات، من أن إسرائيل باقية في محور فيلادلفي، في مشهد يبقي الواقع الإنساني في غزة بلا حلول.
المشهد الآخر أن حركة حماس لا تزال تطالب بانخراط الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة في المعركة، في عملية نقل مشهد غزة إلى الضفة، علما أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية لا تمتلك سوى (سلاح شرطة مدنية) فقط، وبالتالي إن نقل العمليات العسكرية نحو الضفة، يعني أن الضفة ستواجه مصير غزة.
إقرأ أيضا : أوهام نتنياهو الإمبراطورية
التاريخ العربي مليء بقصص حماية المدنيين، سواء بتجنب الذهاب إلى الحرب، وحتى الاستسلام من أجل حماية النساء والأطفال وفي التاريخ القريب ظهر عبد الكريم الخطابي أسد الريف المغربي بعد صمود وانتصارات أسطورية، ضد المستعمر الإسباني، وعندما تحالفت فرنسا مع إسبانيا وعجز عن حماية المدنيين بعد استخدام السلاح المحرم دولياً بحقهم، استسلم أسد الريف المغربي في مايو 1926 ووافق على المنفى لأجل وقف الحرب على شعبة، لكن استسلامه صنع منه أسطورة في البطولة. واستسلم قبله الأمير عبد القادر الجزائري في معاهدة (لاموريسيير)أمام عجز الثورة عن حماية المدنيين ووافق على النفي، وفي التاريخ العالمي استسلمت اليابان في الحرب الكونية الثانية، واستسلمت فرنسا، وفي التاريخ الإسلامي القديم استسلمت غرناطة سنة 1491 واستسلم كثير من الحصون والممالك. غير أننا لم نطلب من حماس الاستسلام، فكل ما يطلبه أهل غزة البحث في وقف الحرب، وليس الجدار في بقاء حماس، وبالتالي إن طرق إيقاف الحرب معطلة بانتظار تحقيق الشروط التي تضمن بقاء حركة حماس مسيطرة على غزة، وهذا ما لا يتم التوافق عليه من جانب نتنياهو، الذي لا يريد أن يغادر المشهد في غزة فيما حماس ترفع شارات النصر.
المعادلة التاريخية للصراعات تشير إلى أن هناك فارقاً كبيراً بين المستعمر والثائر، فالأول لا يكترث لمصلحة المدنيين، بينما يضع الثائر على الاستعمار مصلحة المدنيين نصب عينيه، لأنه لا يمكن أن تكون نتائج الثورة والاستعمار على المدنيين واحدة، غير أننا في العصر الحديث، دخلت علينا عوامل الأيديولوجيا، والتي حدّت من قيمة الإنسان، ورفعت من قيمة الشعارات، وبالتالي أصبحت الأيديولوجيا تصنع وظيفتها في إعادة صنع الانسان وهي الصناعة التي جعلت من الإنسان رقماً أمام الأيديولوجيا التي أصبحت تحمل معادلة الانتصار من خلال البقاء، والبقاء فقط على حساب البشر.