غزة باتت بقايا ركام.. والعالم يشاهد بصمت
مازال النفق مظلمًا. من الواضح منذ اليوم الأول من حرب غزة أن إسرائيل غير جدية وغير معنية باتفاق نهائي مع حماس.
المشهد غير واضح، والصورة مشوشة تشوبها الشوائب. غزة باتت بقايا ركام وما زال العالم يشاهد بصمت. أيّ واقع وصلنا إليه اليوم؟ كيف يقف العالم وهو يشاهد إنسانًا يُهان، يتشظى ويتداعى، يُنتهك وجوده وتنتهك حقوقه وإنسانيته وكينونته.. ثم يبقى الجميع صامتًا؟ إن إنسانية هذا العالم باتت أشلاء. والعالم غارق في صمته أو ربما صدمته، يحاول البحث عن مخرج دون جدوى.
يتساءل المرء أحيانًا: من يدير هذا العالم؟ من المعنيّ بإغراق البشرية في مآس لا تنتهي؟ وماذا تخطط الأطراف حقًا؟ وإلى أيّ مستقبل يحاول هذا العالم قيادتنا والسير بنا نحوه؟
في أيّ قوانين تصبح المكاسب السياسية ومصالح النخبة أهم من حياة الإنسان ووجوده وأهم من إحلال العدالة؟ ما فائدة الدول، التحالفات، الأفكار، الإيمانيات، الفلسفات إن لم يكن هناك “إنسان”؟ ما فائدة كل الشعارات إن لم تستطع أن تضمن للإنسان الأساسيات من حياة طبيعية حيث الغذاء والدواء والمياه النظيفة.. وحيث لا يستيقظ طفل على مشاهد تخلق منه إنسانًا متشظيًا، ضائعًا ومكلومًا.
حياة طبيعية حيث لا يُهان كبار السن ولا ذوو الهمم. حياة طبيعية حيث لا ينزح الإنسان من شارع إلى شارع ومن طريق إلى طريق دون أن يجد خيمة تؤويه، حيث لا يجد مربعا واحدا قادرا على حمايته. ما فائدة كل الإيمانيات والشعارات والفلسفات إن لم تكن قادرة على ضمان حياة طبيعية حيث لا يصبح فيها الإنسان أشلاء؟ حياة طبيعية حيث لا يستيقظ الإنسان على مشاهد أنقاض وحطام.
نحن نعيش في عام 2024، حيث يجب ويجب ويجب ضمان واقع يُحترم فيه الإنسان، كل الإنسان. وضمان الحياة لكل إنسان. واقع حيث لا يعيش المرء بينما يثقل كاهله بمآسيه وواقعه العقيم والسقيم. الإنسان وُجد للحياة، الإنسان هو الحياة. الحياة أهم من الموت. كل فرد وُجد ليحيا، لا ليموت ويُلقى على قارعة الطريق فيصبح هيكلا مجهول الهوية.
كيف يفقد هذا العالم صوته فجأة وتصبح كلماته متقطعة غير مفهومة مقابل المصالح السياسية والمكاسب؟ وأيّ مصالح سياسية هذه التي تكون أولوية أمام كل التشظي والحزن والألم والمعاناة التي نشاهدها يوميًا؟ إن الصمت عن اللاعدالة في مكان مّا في هذا العالم ما هو إلا سماح حتى يتكرر المشهد في مكان آخر. وانتهاك القوانين والدساتير والشرائع في مكان مّا ستكون له تداعيات سيئة على أخلاقيات البشرية وقوانينها وقيمها في المستقبل القريب والبعيد. إن هذا العالم يعمل بمبدأ أثر الفراشة، وما يحدث في أقصى شرق الكوكب ستكون له تداعيات عاجلًا أم آجلًا في أقصى الغرب.. وشواهد التاريخ كثيرة.
تتمعن في المشهد الفلسطيني، فتجد أن الواقع بات معقدًا بشكل مريب، والأطراف المعنية في الصراع تتزايد. إن الأمر بدأ يخرج عن السيطرة، والأمور تتشابك. لكن لماذا؟ ومن المعني بتصعيد الأمور؟ أم ربما الفيل الذي حاول هذا العالم لعقود تجاهله تضخم وانفجر في وجه الجميع؟ ربما. من المستفيد من تأزم المشهد؟ ولماذا يتم تعزيز واقع مظلم؟ ألا توجد أيّ أطراف تحاول إيجاد الحلول؟ إخراج الجميع من النفق؟ من هي الأطراف التي تصر على حرق المنطقة؟ ولماذا يصرون على خلق الجحيم وتوسيع الهاوية لتشمل المنطقة بأكملها؟ إن الخسائر تتعاظم والجرح عميق بشكل مخيف، القروح متعفنة، ويبدو أننا عالقون في منتصف نفق مظلم ولا أحد قادر على إيجاد مخرج.
خلال الحرب على غزة، في فترات كثيرة كنا نسمع تصريحات إيجابية بشأن محاولات التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحماس. أهالي قطاع غزة يغلب عليهم الوهن والتعب والهلاك، ومن حق كل إنسان أن يحاول إنقاذهم من الجحيم المفروض عليهم. على كل الأطراف أن تنقذهم من الجحيم الذي نهش أرواحهم. ثم في كل مرة، بعد آمال شحيحة في المحاولة لخطو خطوة إيجابية، يتحطم الأمل وتعود المنطقة بأكملها لتغرق بشكل أفظع.
ما زال النفق مظلمًا. من الواضح منذ اليوم الأول من حرب غزة أن إسرائيل غير جدية وغير معنية باتفاق نهائي مع حماس، ويبدو أن حماس كذلك. إسرائيل مصرة على تحقيق أهدافها ورسم الواقع “بحاضره ومستقبله” كما تشاء ريشتها، دون الأخذ بعين الاعتبار أيّ ضغوط دولية، وتحفظات أوروبية وأميركية. أو ربما لا وجود لتحفظات من الأساس، إنما كل ما يخرج للعلن مجرد تصريحات لتشويش العامة ولتحقيق المزيد من المكاسب السياسية.
من الواضح أن إسرائيل تحاول عبر مفاوضاتها إرجاع رهائنها، لكن هل ستتوقف عن تحقيق أهدافها بعد ذلك؟ لا أعتقد. إسرائيل مستمرة في عمليتها العسكرية في قطاع غزة بعنف.
يقول الجهاز العسكري والأمني في إسرائيل إن حماس “فكرة” وتحتاج إلى سنوات لاجتثاثها، تحتاج إلى تفكيك عسكري ميداني وفكري ثقافي. فالأمر لا يكمن في التدمير فقط، إنما في إيجاد بديل فلسطيني لحماس يحظى بقبول فلسطيني شعبي، من الممكن أن يقود المرحلة القادمة بعد الحرب. لكن، من البديل؟ وأين البديل؟ لا يبدو أن إسرائيل تملك إجابة خاصة في ظل إصرارها على وضع قواعد اللعبة ورسم الواقع بنفسها.
من البديل وأين البديل؟ في ظل عدم رضا إسرائيلي ودولي عن السلطة الفلسطينية حتى بعد التغييرات الشكلية التي أضفتها على حكومتها. من البديل وأين البديل؟ خاصة في ظل الانقسام الفلسطيني المتفاقم والواضح للعلن بين فتح وحماس، حيث يمكن رصد ذلك بشكل جلي في التصريحات والبيانات والمواقف، واستمرار السلطة الفلسطينية بإلقاء اللوم على حماس بشأن تداعيات الحرب على غزة وتحميلها مسؤولية ما حدث للفلسطينيين.
إذًا، نعود إلى ذات الدائرة، إن الأمر يدور في فلك مكاسب سياسية، والضحية هو المواطن. لكن من يُنقذ المواطن؟ ومن ينتشل الأهالي من ظلام المشهد وبشاعته؟ وهل ستنتهي الحرب وتهدأ الأمور في وقت قريب؟ لا يبدو ذلك. وهل يمكن للإنسان أن ينعم بلحظة سكون ويبدأ بلملمة أشلائه قريبًا؟ لا يبدو ذلك. هل يمكن إنقاذ ما تبقى من ركام شرق أوسط متداعٍ؟ لا يبدو ذلك أيضًا!
تعليق واحد