غزة المدمرة تقاتل «1»
ما رصدته الأقمار الصناعية، حتى نهاية فبراير الماضى، يبين أن القصف الإسرائيلى تسبّب فى إلحاق أذى بنحو 89 ألف مبنى، أكثر من 31 ألفاً منها دُمّر تماماً.
عمدت إسرائيل إلى تدمير أكبر عدد من البنايات فى غزة، بوسع طائراتها أن تضربه، وهى تظن أن مثل هذا الفعل سيُسهل مهمة تقدم قواتها نحو أنفاق المقاومة وكمائنها، لكن لم يلبث فعلها أن ارتد عليها، فتحولت الخرائب والركام إلى واحدة من نقاط ضعف الجيش الإسرائيلى فى حربه على غزة.
تحفر قوات المشاة فى الجيوش النظامية خنادق، أو تقيم سواتر ترابية وخرسانية، إن كانت فى مهمة دفاعية، وتشق فجاجاً صعبة إن كانت فى حالة هجوم، وتفعل كل هذا لتسهيل مهمتها فى اصطياد عدوها، أو صده، أو فتح طريق الوصول إليه. ويطلق العسكريون على المساحات المفتوحة «الأرض الصعبة»، لأن القوات تكون مكشوفة أمام العدو، بينما الأماكن ذات التضاريس الوعرة هى «الأرض السهلة»، لأن الطبيعة يمكن أن تعمل لصالحها.
فى كل الأحوال تُعد الأشياء المادية الثابتة، من غابات وحدائق، ومن بيوت وشوارع، ومن تلال وتباب وكثبان، ومن أنهار وترع وقنوات رى، جزءاً أصيلاً من مسرح العمليات العسكرية الذى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار، حال وضع خطط القتال وإحكامها، بحيث يتم تحويل موجودات البيئة إلى عنصر مساعد للقوات فى الهجوم والدفاع.
وينصح سون تزو، فى كتابه الكلاسيكى «فن الحرب» بتجنب الحروب فى المدن، لاسيما إن كانت ذات أسوار عالية، لأنها تستهلك طاقة القتال، وتعمل لصالح سكانها الأصليين. فحروب المدن موصومة بعدم اليقين والتقلب والتعقيد والمخاطر التى يصنعها تداخل منشآت عسكرية ومدنية. ولذا ظل الجنرالات، على مدار التاريخ، يكرهون القتال فى المدن، ويسعون إلى تفاديه.
وفى حال غزة، يواجه الجيش الإسرائيلى مجموعات تمارس نوعاً من «حرب العصابات» التى منحتها الأنفاق كثيراً من عناصر الفاعلية، وصنعت لها مساحات إضافية للحركة، فى بقعة جغرافية ضيقة، حشدت لها إسرائيل كل هذه الفرق القتالية كى تُحكم السيطرة عليها.
وأسهمت البنايات المهدمة فى حدوث انقلاب فى «المعادلة العسكرية»، حيث تحولت إلى أماكن اختباء للمقاومين، تمنحهم فرص المباغتة والانقضاض السريع، وتحمى ظهورهم حال انسحابهم بعد مهاجمة الجيش الإسرائيلى. على النقيض باتت تمثل عبئاً على تقدّم هذا الجيش للوصول إلى المقاومين فى الأنفاق أو الكمائن.
اقرأ أيضا| هل انتهت حرب الإلهاء والإسناد في غزة؟
وما رصدته الأقمار الصناعية، حتى نهاية فبراير الماضى، يبين أن القصف الإسرائيلى تسبّب فى إلحاق أذى بنحو 89 ألف مبنى، أكثر من 31 ألفاً منها دُمّر تماماً، ونحو 17 ألف مبنى تضرّر بشدة، ونحو 41 ألفاً تضرر بشكل متوسط. وهذا الرقم أكبر مما حدث خلال حرب 2008 حيث بلغ عدد المبانى المدمّرة 5350 مبنى كُلياً، و16 ألف مبنى جُزئياً.
إن البيوت المدمرة خلقت بيئة جغرافية مغايرة لتلك التى اعتاد الجيش الإسرائيلى على القتال فيها، سواء كانت أرضاً مفتوحة أو ممرات فى سيناء فى حروب 1956 و1967 و1973 ضد مصر، أو هضاباً تكون لمن يُسرع فى الاستيلاء عليها اليد الطولى على خصمه، مثل هضبة الجولان السورية. أو أرضاً تجمع بين الربى والسهول فى جنوب لبنان.
ويطلق الجيش الإسرائيلى على الحرب الحضرية اسم «لاشاب بالعبرية»، ولديه تكتيكات حربية واسعة النطاق، تشمل استخدام ناقلات جنود مُدرّعة ثقيلة، وجرافات مُدرّعة، وطائرات بدون طيار للاستخبارات السرية وغيرها، فضلاً عن تدريب القوات على القتال فى مساحات صغيرة.