نعايش هذه الأيام نوعا جديدا من الجريمة المضافة إلى العدوان الإرهابي على غزة، جريمة أشد مرارة من جريمة قتل 50 ألف فلسطيني وتدمير كامل قطاع غزة، عنوانها الاحتيال السياسي على الضحية لكي تقبل عن طواعية تحت عملية ابتزاز شوطا جديدًا من الإبادة المغلفة بثوب النوايا الحسنة والتهليس على الذقون، جريمة عنوانها قتل الضحية مرة ثانية ولكن هذه المرة برضاها موافقتها.
نرى ونسمع كيف تتعرض قيادة المقاومة الفلسطينية هذه الأيام لضغوط سياسية لا تقل وقعا عن قصف الطائرات للقبول بإملاءات (الصفقة البايدينة) الملغومة، ضغوط من الشرق والغرب ودعاة المحبة الاسرائيلية والسلام، وسطاء وغرابيب سود وبائعو الترمس السياسي، كلها تتوج الدفع القسري نحو القبول بهذه الصفقة التي لا تفوت، كنت أتساءل ماذا لو كان زعيم عربي يقبع في موقع قيادة المقاومة ؟
كم من ساعة سوف يلبث قبل أن يوقع كل الأوراق ويعلن بيع بلاده وشعبه وثرواته ؟ لكن العقدة أن غزة ليست كذلك، ويحيى العربي عاد لنا مثل الظهيرة من سجون الاحتلال ليعلن أن هذا الجيل من المواجهة لم تعد تنطلي عليه لعبة الإعمار والأسفار والتجار، لقد تحولت القيادات الفلسطينية إلى وحدات التميز والفرادة في وجه الثعلب الأمريكي، قيادات فريدة في زمانها ورياديتها تفاجئنا كل مرة بثبات وتضحيات لا تقل قوة عن المعارك الضارية في خرابات غزة .
هنالك أسئلة كثيرة لحوحة ذات مخيلة خصبة تدفع بها الجريمة الصهيونية في غزة منذ شهور تسعة ، أسئلة ذات شُعَب ، لا ظليل لها ولا تغني من اللهب ، أسئلة معادة مكررة لا تموت ولا تحيا لكنها تريد تشخيصا وراحة لبالها حتى لا تبقى تتجول في الخرائب كالأشباح غير المستقرة ، لماذا وصلت كرامة شعوب العرب إلى هذا المستوى ؟ ما الذي حدث للمشاعر الحية التي كانت وقود الرجولة والشهامة والكرامة ؟ هل تمكنت الهراوة العربية من تدجين كل هذه الملايين المفقودة في زحام الحياة ؟ ما الرابط بين الإمعان في الهجمة على الثقافة الإسلامية لشعوب العرب والمعركة في غزة والشعوب المخدرة التي ترفض الصحوة ؟ كيف أمكن لغزة إنتاج قيادات كهذه تتفرد في قلوب العرب أجمعين بالإعجاب والمحبة والقدوة الحسنة؟
إن الإجابة الكبيرة مثلها مثل الأسئلة نفسها ، مفقودة مهجورة لأن الإجابة تعني الشفاء الذي لا يراد العثور عليه وحتى تبقى هذه القطعان في ضلال وتضليل إلى يوم يبعثون ! فقط سأنتقي لكم قطعة صغيرة من حلوى الإجابة العميقة من وحل الاجتماع البشري لكي تكون محور هذه المقالة.
في معالم هذا القرن ثمة ظاهرة هجينة تعم سكان المعمورة اسمها الإنغماس، والانغماس المخصص هنا هو جملة سلوكات وعادات مسنودة بثلاثية خفية تحكم عالم اليوم وتعشش داخل الطبقات الاجتماعية كلها : الشهوات -المتعة – الرفاه ، والعناصر الثلاثة لا تكاد تميز احدا منها عن الآخر ولا يمكنك أن تقرر من اين تبدأ، إن الإنغماس كلمة تفاحية المذاق، سكرية الطعم لكنها ثقب أسود للبشرية والعهدة الربانية المودعة فيها، إن جزءا منها هو نتاج طبيعي وعادي ومقترن بخصائص التطور المتوقع للمجتمعات البشرية وتطور نظم السيطرة والدخل والتقنيات، لكن الشيء غير الطبيعي حدث عندما تم تجييش هذا الشيء ليكون رأس الحربة الضاربة في النهج الرأسمالي المتغول على الفطرة البشرية .
إن العصر الذي نعيش تجلياته هو عصر صعود الشهوة البشرية وطوفان المتعة ومظاهر الرفاه الصغيرة والكبيرة، كل هذا يرتبط فورا بالتحلل من الروابط الأخلاقية مقابل اكتساب العقيدة الرأسمالية الانتفاعية، لا يسلم أحد ولا شيء من هذا اللوث العظيم لأنه تغلغل في مسامات الفقراء والأغنياء والوسطاء.
شعارات طوفان الشهوة الجذرية هي الطعام والجنس والثروة والتقنيات الابتلاعية وعلى رأسها أجهزة السمارت فون بعد أن كانت شاشات التلفاز من قبل، مفرمة الرفاه يدخلها الكل ثم يخرج من فوهتها ذات الثقوب المتعددة على شكل فتات يستمتع بعضها ببعض وسط إلتصاق دنيء، الحب العذري انقلب من البراءة إلى الصنم المكلل بالمتاع من القناطير المقنطرة والحلي واللذة في عُرى الدولار، أغاني فيروز الرومانسية حول العاشقة المولهة برجل وَفيٍ تنتظره تحت الشتاء أو في البيادر لم تعد تناسب ضجيج المدن الساعية نحو وحل الحياة .
في داخل الفلك المشحون لمزيج الشهوة والمتعة والرفاه تتغير خصائص الأبعاد الزمانية والمكانية وتختلف ثوابت الجاذبية وثابت بلانك ومعدل التسارع، يصبح الزمن شيئا خفيفا سريعا بلا طعم ولا نكهة ولا رائحة ويتذمر الجميع من سرعة رحيل سنوات هم، تصبح الأماكن مجرد معابد منتشرة للأصنام المحسنة الشكل عن اللات والعزة ولكنها معابد لا صلاة فيها إلا التسبيح بحمد الجحود، تصبح الفاكهة المستوردة من أعماق العالم شيئا عاديا ولحم المحار المنزوع من جسد البحر شيئا بلا متعة لذلك يجب البحث عن مزيد من الملذات ، يصبح معدل التسارع نحو المركز الأسود عاليا لذلك تركب الأرواح شحنات اليأس والتعاسة وتنقلب النعم إلى شـقاء والبذخ إلى عتاب ضمير.
في داخل مجتمعات الملذات من الصعب أن تكون القرارات الجماعية جاسئة أو ذات أبعاد ثابتة بل هي أقرب إلى حالة بلازما المارشملو ، من الصعب إنتاج مواقف حاسمة بل هي مترددة متشككة ، لن يمكن العثور على النخوة أو الرجولة أو الكرامة بمعانيها ذات الحواف الحادة بل ستكون كلها مدورة الحواف وغير قادرة على الجرح، ستكون الكآبة والفردية هي محراب الصلاة الجديد ، يمكن لدكتاتور صغير هنا، حمار أو تافه بأفكار سطحية ومنظومة فاشلة أن يسوق أمة كاملة مثل الأغنام ويرهبها بالعصا، تتفاقم هذه الظاهرة بوجود الدفع نحو الانغماس مقابل القمع والتضييق على الحريات العامة حيث تنقلب المجتمعات إلى ديدان حافرة باحثة في ثقوب الطين عن الانغماس، مجتمعات آسنة ، ذاتية التعفن وذاتية الاحتقار لنفسها ونظرتها الى أي اصلاح.
في داخل فقه الاجتماع وعلوم الإنسانيات قلما يلتفت أحد إلى مفهوم الزواج وقدرته على تشكيل الجدران المتينة للشعوب الصالحة ورحلتها من البداية حتى النهاية، يتم التعاطي مع هذا المفهوم ضمن الإطار الديني والاجتماعي بطرحٍ فاترالوعي مستهلك المعاني، لا يمكن اعتبار الزواج إلا جوهر النشاط الاجتماعي الجذري المولد لكل شيء مما بعده، إنه المفاعل الذري الخفي في كل شؤون الشعوب من السياسة حتى القيم، ومن الصناعة حتى السعادة في الحياة، أهم القيم الخفية التي تتعرض للهجوم داخل المجتمعات مع ارتقاء الانغماس هو الزواج.
وعندما يتعرض هذا الجوهر إلى الهجمة يفسد كامل المجتمع بلا رحمة، أول أعراض الفساد هو ثقافة الإباحة الجسدية بلا حدود التي كرستها شبكات الانترنت وخلطت ثقافات الشعوب ببعضها البعض، اباحة جنسية أصبحت متاحة ومتوافرة وبكل الأدوات بعدما انفجرت علبة الشهوات الغربية ولطخت كل هذا العالم، هذه الإباحة أخلت بالإتزان الطبيعي والمسار الصحيح للذكر والأنثى وتسببت في إفساد الزواج بالمطلق وجعلت المرأة ضحية ثابتة في واجهة المصير.
أصبح الزواج تكريسا لثقافة الجنس وتفريخ كائنات مستهلكة طفيلية مهمتها التدافع نحو الانغماس، تعاني البشرية اليوم من أكبر خطيئة اسمها الاباحية واستهلاك القداسة الادمية التي كرمها الله للانسان بشهادة موثقة وادانة لا لبس فيها تحملها الانترنت وتوثق فيها بملايين المقاطع الردة البشرية عن نفسها، اليوم تحولت الانترنت الى الوثيقة الأضخم لسجل الجريمة البشرية ، تكفي منتجات هوليوود لكي تنقل لكم رسالة العصر الحديث حول كيف أصبحت مادة الانحلال والجريمة والاستمتاع بالقتل والعنف المفرط هو ما يطلبه الجمهور او ما يتم غرسه في وعي الجمهور ، لقد كسر البشر الحاجز بين الذكر والأنثى، الجريمة والمتعة، الحلال والحرام ، شريعة الله وشريعة البشر.
عندما يكون العصر هكذا ضمن علبة الإنغماس المذكورة يكون القوي هو ذلك الطرف الذي يتمتع بخزان المتعة الأكبر والقادر على التحكم برفاه كل الأطراف الأخرى او التزويد بمستلزمات الرفاه والمتعة الايديولوجية و مستلزماتها الرقمية، الطرف الذي يضع العالم كله في برنامج تشغيلي دائم لماكينة الجنس والمتعة والطعام والرفاه الرقمي من خلال آلة دعائية ضخمة تتغلغل في الغدد الصماء لإنسان العصر لإقناعه وبرمجته بأن يكون روبوتا باحثا عن المتعة ومعانيها ومصادرها ، هذه البرامج ينفق عليها المليارات لتخصيب بويضات الانحراف داخل الوعي البشري .
مقابل هذا العالم المرعب الذي تجري برمجته وإحلاله في الواقع البشري هنالك عالم آخر مواز يكاد البشر ينسوه ويهملوه تحت انقاض الخراب الكبير ، هو العالم الحقيقي حيث العمل الحقيقي المنتج من الزراعة والصناعة وإعمار الأرض بالقوة الرحمانية الخاضعة لقواعد الاستخلاف في الأرض من الإحسان والبناء الروحي وعبادة الله ، عالم حقيقي فيه حكومات حقيقية تستثمر في صلاح وإسعاد الإنسان وإحقاق العدالة وتشرعن التكسب الحلال وتمنح الإنسان الفرص وليس عصابات وأجهزة مخصصة للترهيب والقمع والتنكيل وتخطيط استعباد وتضليل البشرية.
في داخل غزة قام العدو وحلفاؤه الحصار والاعتقال والقتل ومنع كامل المدخلات وتشديد المضايقة على معالم الحياة طيلة سنوات من الضنك، النتيجة التي حصلنا عليها هي التي نراها اليوم في وقائع الحرب، شعب متين العقيدة، ثابت على الايمان والعهد والتربية الروحية المستمدة من تعاليم مترابطة متوافقة مع متطلبات الجحيم الذي ظن العدو أنه سيطيح بروح غزة ويجعلها تركع.
لقد دفعت هذه الروح العظيمة عددا هائلا من البشرية للتأمل والتفكر بنوع الثقافة التي تصنع هكذا مستوى من العظمة الإنسانية وبهكذا قيادات لا تغويها كل الدنيا ومتاعها ولا تتهاون ولا تتنازل، في داخل غزة يتخذ مفهوم وقدسية الزواج شيئا مغايرا يحتاج تأملا طويلا، لذلك تتخذ الأسرة والتربية أبعادا صحيحة أنتجت النماذج التي رأيناها وأصبحت اليوم مدرسة كبيرة في الصناعة الاجتماعية المتقنة.
لا مجال للمقارنة بين شعوب مستعبدة بالإنغماس تعيش الرفاه الزائف والزائل وأخرى صابرة محتسبة أكبر هموها رضى الله عنها ، هذا هو أحد مفاتيح فهم الخذلان الشعبي ، لا مجال للمقارنة بين قيادات باعت بلادها مقابل عمولات وأرصدة بنكية وصفقات بزنس لها وللعائلة وأخرى نذرت حياتها لله ولبلادها ولشعبها، قيادات غزة لا تعبد آلهة الأرض ولا تمارس الإنغماس البذيء الذي غرق فيه الخونة والمتسلقون على نزيف فلسطين.
هذه القيادات اضحت نموذج القيادة العالمية الريادية والفكرية التي أدخلت في التاريخ نوعا جديدا ومدرسة جديدة من البطولة والكرامة والوفاء لشعبها بل لكل هذا العالم الذي استيقظ على وقع الإنسانية والأخلاق العالية لهذه القيادة غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، قيادات غزة التي قضت سنوات طوال في سجون العدو ثم عادت لتصنع الكرامة من جديد، هؤلاء هم بداية الإرتقاء العربي المشرق والجديرون بقيادة شعب فلسطين، ليس هذا فحسب بل أصبح للعرب قادة جدد يصنعون فارقا في بورصة الركوع التي تعشش في المنطقة من سنوات طوال، في اليمن وفي لبنان وفي العراق وفي كل موضع حر يستمر توالد قيادات جديدة للعرب ستكون هي الملهمة والصانعة للفجر الجديد.