غرب إفريقيا في قلب الصراع
لم تكن نبرة ماكرون، قبل التحولات الإفريقية والانقلاب على فرنسا هناك، تتسمّ بهذه الحدّة ضدّ روسيا، وبقي الرئيس الفرنسي يتصل هاتفياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين حتى بعد أشهر من اندلاع الحرب.
أعلنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس” قبل أسبوع، عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على غينيا وبعض العقوبات المفروضة على مالي، وذلك غداة الإعلان عن رفع جزء كبير من العقوبات عن النيجر.
الدول الثلاث شهدت مع بوركينا فاسو والغابون انقلابات عسكرية في السنوات الأخيرة، وموجة عداء للنفوذ الفرنسي. والقرار الذي اتخذته “إكواس” لا بدّ من أنّه يرتبط في شكل وثيق بانسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من المجموعة التي كانت فرضت عقوبات اقتصادية على الدول المذكورة، وهدّدت بالتدخّل العسكري في النيجر من أجل إعادة الحكم المدني.
الإجراء الذي اتخذته “إكواس” أتى أيضاً عقب تحولات جيوسياسية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، التي أعلنت في وقت سابق من العام عن قيام “تحالف دول الساحل” بعد تقاربها مع روسيا على حساب فرنسا، شريكها التقليدي على مدى عقود.
أدركت “إكواس” والقوى الأساسية فيها وعلى رأسها نيجيريا، أنّ هذه المجموعة في طريقها إلى التفتت في حال أبقت العقوبات على الدول التي شهدت انقلابات عسكرية. واقتنعت المجموعة، على رغم التحريض الفرنسي، بعدم جدوى التدخّل العسكري في النيجر من اجل إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة.
هناك واقع سياسي جديد في دول الساحل، تلا الإنسحاب العسكري الفرنسي وطي صفحة “عملية برخان” لمحاربة التنظيمات الجهادية، التي تغلغلت في المنطقة انطلاقاً من الفوضى الليبية التي ساهمت فيها فرنسا نفسها عام 2011.
لا تعاني دول الساحل وغرب إفريقيا من الجهاديين فحسب، بل من السياسات الفرنسية التي بقيت تتعامل مع المستعمرات السابقة وكأنّها الوصي عليها، في مقابل امتيازات اقتصادية ونفوذ سياسي وعسكري واسع.
إنّ انحسار النفوذ الفرنسي في الساحل وغرب إفريقيا وتقدّم روسيا، لا يتقبّله الرئيس إيمانويل ماكرون بسهولة. وهذا ما يفسّر ذهابه إلى الحدود القصوى في مساندة أوكرانيا واقتراحه فكرة ارسال قوات فرنسية أو من دول أوروبية أخرى إلى أوكرانيا، إذا كان هذا السبيل الوحيد لإلحاق الهزيمة بروسيا.
لم تكن نبرة ماكرون، قبل التحولات الإفريقية والانقلاب على فرنسا هناك، تتسمّ بهذه الحدّة ضدّ روسيا، وبقي الرئيس الفرنسي يتصل هاتفياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين حتى بعد أشهر من اندلاع الحرب، وكان من بين القادة الأوروبيين القلائل الذين دعوا إلى تجنّب “إذلال” روسيا على طريقة فرساي مع ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى.
اليوم، هناك تبدّل جذري في خطاب ماكرون، من حيث التشدّد في مواجهة روسيا. ويبدي الرجل استعداداً أكبر لتزويد أوكرانيا بأسلحة فرنسية متطورة، ويحضّ على استخدام الودائع الروسية المجمّدة في البنوك الغربية، والبالغة 300 مليار دولار، في شراء أسلحة لأوكرانيا وتجاوز عقبة تجميد المساعدات الأميركية في الكونغرس الأميركي، والخوف من أن تؤثر العودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، على تدفق السلاح والمال الأميركيين إلى كييف.
يجب التفتيش عن الأسباب الكامنة خلف هذه الحدّة في الخطاب الفرنسي حيال روسيا، والذي أثار ذعراً حتى لدى الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة. وسارع حلف شمال الأطلسي وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتس إلى نفي أي تفكير في إرسال قوات إلى أوكرانيا. إجراء كهذا سيؤدي حتماً إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
وحتى داخل فرنسا، يواجه ماكرون دعوات إلى سياسة أكثر واقعية حيال إفريقيا والتخلّي عن سياسات وأدوار لم تعد قابلة للتطبيق في ظل المشاعر المناهضة لباريس في هذا الجزء من العالم.
هذا يثبت أيضاً مدى الانعكاسات التي يتركها النزاع في أوكرانيا على مناطق أخرى من العالم.