عودة القضية الفلسطينية إلى المسار العربي الصحيح
يمكن أن يهمس البعض ويقولون إن التفكير في حل للقضية الفلسطينية سابق لأوانه، ويمكن أن يصرخ البعض بأن ما قامت به إسرائيل وما تصر على القيام به يخلق واقعا مغايرا، لن تكون فيه هذه القضية مطروحة أصلا.
تعرضت القضية الفلسطينية خلال السنوات الماضية لشد وجذب بين محاور وجهات متعددة، أدخلتها نفقا لا أحد يعلم هل سوف تخرج منه بسلام أم لا بعد اندلاع الحرب على قطاع غزة ثم جنوب لبنان، وقفزت على ظهرها دول أرادت الاستثمار فيها زورا، وعندما جاءت لحظة فاصلة اختفى البعض تماما من المشهد، وهناك من سعى للنأي عنها وتنظيف يديه الملطختين بدماء شعبها، ومن تنصّل من علاقته بها.
وكي لا تصبح القضية لقيطة أو يتيمة كما تريدها إسرائيل وتصرف الأنظار عنها بإثارة قضايا أخرى جانبية من الواجب وضعها على مسار عربي صحيح. مسار واقعي يخلو من المزايدات السياسية التي كبّلتها سنوات طويلة، ومن المتاجرات التي جعلتها بازارا لكل من يريد أن يلعب دورا إقليميا أو يعظّم مصالحه.
سقطت شعارات من رفعوا لواء الممانعة بعد إخفاقهم في تحويلها إلى واقع وانكشافهم في محك مصيري وفّرته الحرب على غزة، ولم ينتصر من رفعوا شعار الاعتدال لأنهم انشغلوا بتحقيق مصالحهم الذاتية أو أحبطوا بسبب المناورات الإسرائيلية والانقسامات الفلسطينية، وعدم وجود إرادة دولية تدعم توجههم نحو حل عادل للقضية الفلسطينية على أساس قرارات الشرعية الدولية، وباتت المنطقة مفتوحة على صراع جديد يمكن أن يعيد ترتيب أوراق الأجندة الإقليمية، بما يحرف القضية الفلسطينية عن المكانة الواسعة التي اكتسبتها على مدار العقود الماضية، وجعلتها أم القضايا وأخطرها، ودونها يصعب تفكيك الأزمات الأخرى.
قد تكون الدول العربية منشغلة بالنتيجة التي سوف تصل إليها المواجهة بين إسرائيل وإيران، وستحدد الكثير من الترتيبات التي يمكن أن تصبح عليها منطقة اقتربت من الانفجار الكبير، وبدأت بعض الدول تخشى من إمكانية أن تمتد إليها نيران حرب يصعب توقع ما تسفر عنه من ويلات، وهل ستنحصر في طرفيها الظاهرين، أم تضم أطرافا أخرى بجوارها، وهي أسئلة تحدد إجاباتها الطبيعة التي يمكن أن تبدو عليها خارطة المنطقة في السنوات المقبلة، ومركزية القضية الفلسطينية فيها أو هامشيتها.
لم يتوقع الكثيرون أن تنشغل المنطقة بما يتعدى هذه القضية المحورية، ففي خضم الحرب العراقية – الإيرانية لم يتم تجاهل القضية الفلسطينية، حربا أو سلما، ووسط الغزو الأميركي للعراق كانت هذه القضية أيضا مطروحة على نطاق واسع، ومع اندلاع كل الثورات في دول عربية عديدة والمعروفة بـ”الربيع العربي” في العقد الماضي لم تغب أو تتلاشى هذه القضية.
ما يعني أن من يحاولون تجاوزها أو تخطي ثوابتها، مهما كانت الحصيلة التي ستنجم عن المواجهة بين إيران وإسرائيل وأطرافها الرئيسية والفرعية، قد يجدون أنفسهم أمام بانوراما تعيدهم إليها، ومشهد يفرض التفكير في تسوية عملية، لأن التصورات التي تبنّتها أو يمكن أن تتبنّاها إسرائيل لم تفلح بعد في اقتلاع القضية من جذورها، أو إزالتها من وجدان الشعب الفلسطيني وعقله في الداخل والشتات.
اقرأ أيضا| مصير غامض لعمال الضفة الغربية وسط أزمة اقتصادية طاحنة
تعلم الدول العربية الملامسة مباشرة للقضية أو تلك المعنية بها بحكم رغبتها في الهدوء والاستقرار أنها لن تتلاشى أو تندثر، طالما هناك شعب يئن ويعيش في الأراضي المحتلة، ويبحث عن تقرير مصيره، ولديه من الإرادة ما جعل كل الأزمات التي مر بها تفشل في كسرها، وقد تكون هناك فرصة لتصويب مسار القضية الفلسطينية بعد أن اهتزت حلول محور الممانعة، وحاجة محور الاعتدال إلى صياغة جديدة لتوجهات تراعي حصيلة السنوات الماضية، والتي بدت فيها تصرفات أطراف هذا المحور منفصلة ومتباعدة، وتحطم ما تبقى من أمل على صخرة العناد الفلسطيني.
يمكن أن يهمس البعض ويقولون إن التفكير في حل للقضية الفلسطينية سابق لأوانه، ويمكن أن يصرخ البعض بأن ما قامت به إسرائيل وما تصر على القيام به يخلق واقعا مغايرا، لن تكون فيه هذه القضية مطروحة أصلا، وهي نفس الدوافع التي تجعل من الدول العربية تصرّ على عدم التفريط فيها، فطال الزمن أو قصر يوجد شعب فلسطيني يستحق الحياة، ولن تحقق إسرائيل ما تصبو إليه من أمن واستقرار وهي تحرم أكثر من خمسة ملايين نسمة من أبسط حقوقهم في الحياة، لأن هؤلاء أو جزءا منهم لن يقبلوا التطاول الذي يمارس عليهم من قبل المتطرفين والمستوطنين.
يصعب أن تدشن إسرائيل أيّ مشروعات إقليمية بارتياح في المنطقة، وسواء أطلقت على الشرق الأوسط الجديد أو أي مسمّى آخر، ففي كل الحالات تحتاج إلى تعاون مع المحيط الإقليمي القريب منها، ومعظمه يتشكل من دول عربية، جلها أو بعضها لن يمحو القضية الفلسطينية من ذاكرة الشعوب العربية، فما بالنا بالشعب الفلسطيني.
ولعل تكرار السعودية ربط تطوير علاقاتها مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية يكفي كمؤشر للتدليل على نوعية التفكير الذي يخيم على المستقبل بشأن هذه القضية، وإذا أضفنا مقتضيات الجغرافيا السياسية بالنسبة إلى مصر والأردن، يتبين إلى أيّ درجة يستحيل تجاهلها أو إسقاطها، لأنها عصب حيوي في الأمن القومي للبلدين.
من الضروري عدم ربط القضية الفلسطينية بتوجهات سياسية فضفاضة أو مذهبية ضيقة أو حتى قومية يمكن أن تصبح خادعة، فالربط يجب أن يكون وطنيا خالصا، ونقطة انطلاقه أن تتوحد القوى والحركات الفلسطينية حول رؤية واحدة وتتفاهم على مقاربة تمكّن من عدم الانحراف عن الطريق الذي يفيد الشعب الفلسطيني، والذي كان كله أو معظمه الخاسر الأكبر على مدار العقود الماضية، جراء ما حدث من تلاعب أو مواجهة أضرت كثيرا بقضيته، والتي حوّلها البعض من قضية عادلة إلى أداة لتصفية الحسابات في المنطقة.
وما لم تنته لعبة الجبهات والمحاور والتصنيفات التي تمنح صكوك غفران للبعض وتحرّمها على آخرين لن تقوم قائمة لهذه القضية، وسوف تظل تراوح مكانها بين درجات متباينة من الهبوط، وربما تقبع في مكان قصيّ ويصعب عودتها إلى الواجهة.
تتحرك الكثير من المياه في منطقة الشرق الأوسط، وإذا ربحت إسرائيل هذه الجولة، ستكون لها يد طولى تصل بها إلى أبعد نقطة تريدها، ويومها لن تصبح القضية الفلسطينية محل مزايدات أو تجد من يتعامل معها بالجدية اللازمة ووضعها على المسار الصحيح، من العرب أو غيرهم.
ولذلك من المهم الاستعداد لهذا السيناريو القبيح، لأن الطريقة التي تدير بها إسرائيل معاركها الراهنة مختلفة عمّا قبلها، في وجود رغبة عارمة لتغيير الواقع المحيط بها، وأبرز معالمه سوف يرتد سلبا على القضية الفلسطينية، والتي قد يتحول من تكاثروا للقبض على مفاتيحها إلى خيال، وتصبح هي في سبيلها إلى النسيان.