عن حماية المدنيين في غزة
تحقيق السلام وإنهاء هذا العنف الذي لا معنى له من كلا الجانبين يتطلّب منح الفلسطينيين حقّهم غير القابل للتصرّف في إقامة دولة خاصة بهم. ولكن بما أن تلك الرؤية أصبحت الآن بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى - فقد صوّت البرلمان الإسرائيلي مؤخراً ضد إقامة دولة فلسطينية مستقلّة.
من بين جميع الأسئلة التي أثيرت بشأن حرب إسرائيل على غزة، ليس هناك سؤال أكثر أهمية وإلحاحاً من السؤال التالي: لماذا فشلت إسرائيل فشلاً ذريعاً في حماية المدنيين الفلسطينيين في مواجهتها مع “حماس”؟
تشير إحدى وجهات النظر إلى أن إسرائيل إما أنها لا تكترث بالأضرار الجانبية، أو الأسوأ من ذلك أنها تستهدف المدنيين عمداً. ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن إسرائيل إما أنها مدفوعة بدافع الانتقام الأعمى أو الاعتقاد بأن العقاب الجماعي للفلسطينيين سيدفعهم إلى التنصل من “حماس”.
وثمة وجهة نظر أخرى، تتبنّاها إسرائيل، وهي أن الجيش الإسرائيلي يفعل كل ما بوسعه لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين، وكلّما وقعت مآسٍ، كتلك التي حصلت في 10 آب (أغسطس) واستهدفت مدرسة التابعين على سبيل المثال، يقول إنها نتيجة اختباء “حماس” عمداً في المباني المدنية واستخدام الفلسطينيين كدروع بشرية. وتصرّ إسرائيل على أنه لو لم تتبع “حماس” مثل هذه التكتيكات اللّاأخلاقية لما سقط هذا العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين الأبرياء.
لا يمكن إثبات أي من هاتين الروايتين أو دحضهما بالكامل، وذلك ببساطة لأنه من الصعب إثبات النوايا. ولكن بعيداً عن مسألة النوايا الذاتية والمثيرة للجدل، تتجاهل هذه المنظورات حقيقةً موضوعيةً عن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قد تفسّر بشكل أفضل استهداف إسرائيل و”حماس” للمدنيّين: ساحة المعركة ذات طبيعة حضرية بحتة.
وبالفعل، وعلى عكس العديد من الحروب الحضرية الأخرى وحملات مكافحة التمرّد عبر التاريخ، لا يوجد في غزة أي تمييز بين المدنيّين والعسكريّين. فـ”حماس” لا تملك قواعد أو حاميات أو تشكيلات عسكرية نموذجية. وفي بيئة شديدة التكثيف مثل غزة، التي وصفتها المنظمات الإنسانية الدولية عن حق بأنها “سجن في الهواء الطلق”، لا يملك الفلسطينيون القدرة المادية على النأي بأنفسهم عن “حماس”، ولا يوجد لدى الحركة نفسها مكان آخر للاختباء سوى بين السكان. فعلى عكس الفيتكونغ في حرب فيتنام، على سبيل المثال، لا يستطيعون الهروب إلى الغابات. لا يهم كيف ينظر المرء إلى “حماس” – هل هي منظمة إرهابية أم حركة مقاومة – تبقى الحقيقة أنه حتى لو كانت لديها أفضل النوايا، فإنها لا تستطيع الاختباء جسدياً إلا في المدارس والمنازل والمساجد والملاجئ.
اقرأ ايضا| لا حل.. إنما هدنة لالتقاط الأنفاس
لطالما مثّل هذا معضلة بالنسبة لإسرائيل. سواء أكانت نظرة المرء إلى الجيش الإسرائيلي أخلاقية أم غير أخلاقية، فالحقيقة هي أنه لا يوجد شيء اسمه هدف عسكري بحت في غزة أو في أي مكان آخر في الأراضي الفلسطينية. فالجيش الإسرائيلي هو أحد أكثر الجيوش اقتداراً، ويمتلك أسلحة حديثة يمكنها القضاء على الأعداء بدقة متناهية، كما أثبت ذلك في سوريا وإيران ولبنان. ولكن حتى تلك القدرات المتطوّرة لا يمكنها أن تمنع القتل الجماعي المتكرّر للفلسطينيّين الأبرياء. فمقاتل “حماس” نفسه الذي يقاتل إسرائيل في النهار هو نفسه ربّ أسرة في الليل، ولا يمكن التمييز بين الإثنين.
وبالطبع، يجب ألا نغفل أن السبب الجذري للصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية (بالإضافة إلى التوسّع الاستيطاني)، وهو ما أكّدته أعلى محكمة في الأمم المتحدة في 19 تموز (يوليو).
إن تحقيق السلام وإنهاء هذا العنف الذي لا معنى له من كلا الجانبين يتطلّب منح الفلسطينيين حقّهم غير القابل للتصرّف في إقامة دولة خاصة بهم. ولكن بما أن تلك الرؤية أصبحت الآن بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى – فقد صوّت البرلمان الإسرائيلي مؤخراً ضد إقامة دولة فلسطينية مستقلّة – يجب على القوى العالمية أن تركّز جهودها على كيفية التزام إسرائيل بتقليل الخسائر في صفوف المدنيّين ولكن مع الاعتراف الصادق بأن ذلك الهدف سيكون له حدود نظراً للطبيعة الحضرية للأرض والكيان الهجين لـ”حماس”.
وباعتبارها مزوداً سخياً للمساعدات العسكرية لإسرائيل – وهي الوسائل نفسها التي تستخدمها إسرائيل لاستهداف مقاتلي “حماس” والمدنيين الفلسطينيين على حد سواء – يجب على الولايات المتحدة أن تضع شروطاً صارمة على استخدام مساعداتها، تماماً كحالها مع أي شريك أميركي آخر. ورفعت المرشحة الديموقراطية للرئاسة الأميركية كامالا هاريس صوتها مؤخراً بشأن فشل إسرائيل في حماية المدنيين الفلسطينيين، ولكنها لم تغيّر موقفها الذي أعلنته في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي: الولايات المتحدة لن تضع أي شروط على الدعم الذي تقدّمه لإسرائيل للدفاع عن نفسها.
لا يتعلّق الأمر فقط باحترام القوانين الأميركية أو حماية سمعة أميركا أو التمسّك بالقيم الأميركية، بل إنه يتعلق بكل هذه الأمور، وكذلك الاعتراف بأنه على الرغم من صعوبة تجنب سقوط ضحايا من المدنيين من الناحية العملية، فإن التجاهل التام لهذه المشكلة أو قبولها كنتيجة حتمية للحرب سيزيد من المعاناة الإنسانية ويعمّق المظالم ويزيد من انعدام الثقة، وبالتالي يقضي على أي فرصة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تعليق واحد