عن الديمقراطيين والخيار “هاريس”
ليس سرًّا القول إن المقاربة بين كمالا هاريس وبين رموز ديمقراطيّة أخرى على سطح الحياة السياسيّة، لا تصبّ في صالحها، طولاً وعرضًا ومساحة إجماليّة
مثيرٌ جدًّا شأن الحزب الديمقراطيّ الأميركيّ، ذاك الذي كان حتى وقت قريب، يدعم ويساند الرئيس بايدن، ويرى فيه الجواد الرابح للبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، ثم لم يلبث بين عشية وضحاها، وبعد المناظرة الأولى مع المرشَّح ترمب، تخلّى عن مرشحه، بل أجبره قطعًا على التراجع، وكأنّ أحوال بايدن كانت خافية عن أعين كوادر الحزب وقواعده الجماهيريّة في طول البلاد وعرضها.
من بين القصص الإخباريّة المثيرة التي تملأ سماوات واشنطن في الأسبوع الماضي، ما تردَّدَ على لسان الصحافي الاستقصائيّ الشهير سيمور هيرش، والذي قصَّ على مسامع الأميركيّين قصة إبعاد بايدن، بعد تهديدات مباشرة من الرئيس الأسبق أوباما، باستخدام التعديل 25 من الدستور لإزاحته، وكشفه عن اتّفاق سابق جرى مع بايدن بالحكم لولاية واحدة ثم يُسَلِّم الراية لهاريس ويتوارى. غير أن إغراءات المقعد الوثير في البيت الأبيض لعبتْ برأسه قبل أن يُوضَع أمام الأمر الواقع.
لا نقطع بصحّة الرواية بالمطلق، لكنّ المؤكّد فيها أمران: الأول هو أن أوباما لا يزال هو مايسترو التيار الديمقراطي اليساريّ، الذي انحرف وربّما انجرف بأميركا بعيدًا.
والثاني هو أن هاريس كانت ضمن المُخطَّط الديمقراطيّ الماورائيّ منذ وقت طويل، وفي حالة سكون حتى تحين اللحظة المَرْجُوَّة.
ليس سرًّا القول إن المقاربة بين كمالا هاريس وبين رموز ديمقراطيّة أخرى على سطح الحياة السياسيّة، لا تصبّ في صالحها، طولاً وعرضًا ومساحة إجماليّة.
فارق كبير بين هاريس وبين غافين نيوسوم حاكم كاليفورنيا، وليس لها جاذبية جريتشن ويتمر حاكمة ميتشيغان، كما أن ميشال أوباما، تبدو متقدّمة كاريزماتيًّا عليها بمراحل كبيرة، أمّا عن هيلاري كلينتون فلا وجه شبه من الأصل.
هنا علامة الاستفهام التي لا تخلو من تعجب كبير: “كيف للديمقراطيّين أن يخلفوا كلّ هذه الرموز ويوفوا لها؟”.
رسميًّا حصلت هاريس على ما يكفي من الأصوات لضمان ترشيح الحزب الديمقراطيّ لها لخوض الانتخابات الرئاسيّة، فقد وَقَّعَ 4000 مندوب على عرائض لدعم ترشُّحِها، ما دعاها للتصريح العلنيّ والرسميّ: “يشرفني أن أكون المرشَّحة المفترضة للحزب الديمقراطيّ لرئاسة الولايات المتحدة”.
هل هاريس هي الستار الذي يمارس من ورائه أوباما وبقيّةُ أطراف اليسار الأميركيّ الضارب جذوره في البلاد، مهمتهم في إعادة تشكيل ملامح ومعالم أميركا مغايرة عن تلك التي ينتوي دونالد ترمب حال وصوله إلى البيت الأبيض السعي في طريقها؟
الإثارة الأكثر والأقرب إلى المسرحية، جرت من جانب أوباما نفسه، الذي بدا أول الأمر وكأنه غير مُتَعَجِّل، ترشيح هاريس، وهو ما فهمه البعض هناك أنه قد يكون رفضًا مؤقتًا لهاريس، لكن سرعان ما انكشفت أبعاد اللعبة، حين تلَقَّتْ كمالا اتصالاً غير متوقَّع في مشهد تمثيليّ، لا يغيب عن الأعين، يعلن فيه الرجل وزوجته ميشال دعمهما لها، وإبداءها دهشتها المنحولة، وفرحتها التي تكاد تكون مُزَيَّفة.
لن يطول الوقت حتى يعلن الديمقراطيّون في مؤتمرهم العام، كمالا هاريس مرشَّحةً رسميّة لهم، وها هي تمضي قُدُمًا في إعادة ترميم صفوف الديمقراطيّين التي أصابها التصدّع من جرّاء تركة بايدن الثقيلة.
ما يقطع بأنّ ولاية هاريس، حال فوزها، لن تكون سوى رئاسة رابعة لأوباما، باعتبار الكثيرين أنّ رئاسة بايدن كانت الولاية الثالثة، هو حملتها الانتخابيّة والتي تضمّ خبيرَيْن إستراتيجيّيْن بارزَيْن قادا حملة الرئيس الأسبق أوباما، وهما “دافيد بلوف”، الذي عمل مديرًا لحملة أوباما الرئاسيّة في عام 2008، وكان مساعدًا بارزًا في فوزه مرّة أخرى عام 2012، عطفًا على ستيفاني كاتر، وهي عضو بالحزب الديمقراطية، وخبيرة في مجال العلاقات العامّة، وعملت سابقًا مديرة للعلاقات العامة بالبيت الأبيض ونائبة لمدير حملة أوباما، ومكانها الجديد اليوم في حملة هاريس هو الاضطلاع بدور مستشارة رفيعة للتواصل الإستراتيجيّ.
وبالإضافة إلى الاسمَيْن المتقدّمَيْن، هناك حكمًا أسماء أخرى تلعب أدوارًا مهمة من وراء الستار، من عَيّنة ميتش ستيورات، اللاعب الماهر السابق في حملات أوباما، والذي يتولّى اليوم دور مستشار كبير لشؤون الولايات المتأرجحة.
هل من حظوظ حقيقية على الأرض لوصول هاريس إلى البيت الأبيض؟
تساؤلٌ قد يكون من الصعوبة بمكان تقديم جواب عنه في هذه الأوقات المثيرة، حيث تعيش أميركا نحو مئة يوم من الفوضى، قبل الانتخابات القادمة، وفيها قد تجرى المقادير بأحداث جسام لا يعلمها إلا الله، وبنوع خاص، طالما باتت أطراف وأطياف الدولة الأميركية العميقة، هي اللاعب الرئيس، سواء بشراكة مع اليسار الديمقراطيّ، وربّما اليمين الأميركي، أو من غير أيّ شراكات ووفقًا لأجندات براغماتيّة غير خافية على من لديهم علم من كتاب.
غير أنه وفي كلّ الأحوال تبدو حظوظ هاريس متقدمة على صعيد الشباب الديمقراطيّ الذي يستشعرها قريبة في العمر منه، تلك الكتلة المرجحة والتي كان لها أن تحجم عن الاقتراع لبايدن لكبر سِنّه.
من هنا تعتزم هاريس البناء على هذا الرصيد من الحماسة، وتسلط الضوء منذ دخولها السباق على فارق السنّ كذلك، بينها وبين خصمها ترمب، الذي يكبرها بعشرين عاما، وكأن الأقدار كانت تخبّئ مفاجأة لهذا الأخير.
يغرق فريق حملة هاريس شبكات التواصل الاجتماعيّ وفي طليعتها التيك توك بمقاطع فيديو تظهر فيها هاريس محاطة بنجوم موسيقى الراب، وتحصد ملايين المشاهدات.
لم تتوانَ هاريس عن الظهور في برامج تلفزيونيّة، لتلقي خطابات تعتبر نفسها فيها مرشّحة الشباب: “في هذه الانتخابات، نعول علكيم لضخّ الحيويّة والتنظيم والتعبئة”.
هل يعني هذا أن وصولَ هاريس إلى البيت الأبيض أمرٌ مقطوعٌ به؟
بحسب النيويورك تايمز الأميركية، تبدو هاريس أمام اختبار حقيقيّ يتعلّق بمقدرتها على تحويل موجة الطاقة الليبراليّة المكبوتة إلى زَخَمٍ مستدام.
تبدو ورغم الصورة البرّاقة العقبات أمام هاريس حقيقية، وغير يسيرة، والسؤال الرئيس: هل يمكنها إعادة بناء التحالف الديمقراطيّ الذي مكن بايدن من الفوز في 2020، على ترامب؟
حكمًا هناك ملامح جيدة في حملتها، من بينها التبرعات الكبيرة والوفيرة، فقد استطاعت في أسبوع واحد جَمْع 200 مليون دولار، فيما تبرعات ترامب طوال شهر يوليو الماضي، لم تتجاوز الـ 124 مليون دولار، ما يجعل من اليسير عليها الوصول إلى الناخبين في دورهم وأعمالهم، في طريق سيرهم، وفي سكونهم، عبر كافة أدوات الإعلام المقروء والمسموع والمرئيّ، التقليديّ منها والمُحدَث كما الحال في وسائط التواصل الاجتماعي.
لم تكشف هاريس بعدُ بشكل كامل عن رؤيتها الخاصة للحزب والبلاد، وقد يكون هذا عاملاً معضدًا أو مهددًا لها، كما أن الفرصة المرجَّحة لإكمالها المسير نحو البيت الأبيض من عدمه، ستكون بلا شكّ المناظرة التي وافق عليها ترامب، نهار الرابع من سبتمبر القادم، والتي ستسبق الانتخابات بنحو 60 يومًا.
وفي الأثناء، لا يراود المرء شكٌّ أنّ حملة ترامب تغيّر أوضاعها، وتُبَدّل طباعها، تبحث في ماضيها القديم، وتستدعي كلّ نقاط الضعف وثغرات التيه الإنساني التي قد تكون مَرّت بها، تلك التي سيعزف عليها رجالات ترامب عزفًا شديد الوَقْع.
ماذا سيكون من شأن هاريس؟ دعونا ننتظرْ ونَرَ.
2 تعليقات