وابل الهجمات العنصرية التي يتعرض لها صادق خان (53 عاماً) منذ صار أول عمدة مسلم للندن في 2016، مخيف حتى من الناحية الأمنية. إلا أن هذا التجني حفزه على تحطيم رقم قياسي جديد، وإحراز فوز غير مسبوق بولاية ثالثة، بعد ترقب طويل أُشيع أثناءه أن خصوم العمدة قد نالوا منه. ويعتقد أنه انتصر وبفارق كبير (10 في المئة)، لأن مسلمي العاصمة لم يقفوا ضده، ولا سيما أن مواقفه من غزة كانت جيدة.
والحق أن الاستهداف الظالم قد جعله شهيراً على مستوى العالم، عندما خصّه دونالد ترامب حين كان لايزال رئيس أكبر دولة في الدنيا بالهجاء المقذع مرات عدة. وللتحامل الذي يكتسي بصبغة عنصرية جانب مفيد آخر. فهو يصلح أداة لتوصيف من يمارسونه والمجتمع الذي يتحركون فيه، أكثر مما هو مناسب لرسم معالم الضحية.
لو عثر الخصوم على خلل ما أو نقطة ضعف في سجله أو أدائه لما تجاهلونها. وهم يعرفون حق المعرفة أن الانتقاد على أساس مذهبي هو عملة رائجة بقوة حين يكون الهدف مسلماً، وبدرجة أقل يهودياً، فكراهية المسلمين (إسلاموفوبيا)، وكراهية اليهود، رائجتان. ولذلك اعتقدوا أن مهاجمته من خلال تكرار العبارات الممجوجة ستدغدغ مشاعر المتشددين أو الجهلة في بريطانيا ممن يتخيلون أن المسلمين “غرباء” يخططون لطردهم من جزرهم الغناء والحلول محلهم.
وابن المهاجرين الهنديين – الباكستانيين اللذين وصلاً إلى لندن مسقط رأسه، في1868، أي قبل ولادته بسنتين، يعرف العنصريين ويعرفونه. فهو ترعرع في مناخ شاع فيه النفور من الملونين والمسلمين، حتى أنه عمد هو وبعض إخوته السبعة إلى تعلم الملاكمة للدفاع عن أنفسهم في جنوب لندن.
والعبارات العنصرية نفسها لاتزال تتردد على مسامعه، مع فارق أساسي بين الأمس واليوم، وهو أنها لم تعد تخرج من أفواه أولاد الشوارع، بل تصدر عن سياسيين كبار. ففيما كان الناخبون يتوجهون إلى مراكز الاقتراع يوم الجمعة الماضي، كُشف عن هجوم عنصري آخر على العمدة. وتناقلت وسائل الإعلام تسجيلاً مسرباً لعضو مجلس العموم لي أندرسون، وهو نائب رئيس حزب المحافظين سابقاً، يدعي فيه أن خان “يكره هذه البلاد (…) وتراثنا وثقافتنا”.
المقلق أن الرجل تباهى كذلك في تلك الحفلة الخاصة أن اثنين من أعضاء مجلس الوزراء الحالي علاوة على موظفين في مقر قيادة الحزب الحاكم أعربوا عن دعمهم لآرائه الملتوية. وذكر أن هؤلاء صادقوا على توصيفه قبل نحو شهرين لخان بأنه كان في قبضة الإسلامويين، وأنه قد “أعطى عاصمتنا لأصحابه”. ولعل هذه الاعترافات توحي بمدى تغلغل كراهية المسلمين في حزب المحافظين، وهو أمر اعتبره بعض أعضائه المعتدلين “معيباً”. وربما يساعد تفشي هذا الداء على فهم موقف ريشي سوناك زعيم حزب المحافظين من أندرسون، ولماذا كان أضعف من أن يطرده، أو يشجب كراهيته للإسلام، واكتفى بتجميد عضويته!
على أي حال، اتهامات هذا “الغوغائي” ليست من بنات أفكاره. قد يدعيها لنفسه. لكنها في الحقيقة شائعة. كررها ترامب، صديق “أستاذه” نايجل فرّاج، في مناسبات شتى، كما استغلها آخرون لتكسير صورة السياسي الذي لم يقدروا أن يهزموه في مباراة شريفة.
اعتبره ترامب في 2016 “جاهلاً” يلحق الضرر بلندن، ثم عاود التهجم عليه بقسوة زاعماً أنه يمثل “وصمة العار الوطنية التي تدمر عاصمة المملكة المتحدة” (2019). ووصفه في العام ذاته بأنه “خاسر تماماً من دون إحساس”.
وأدى ذلك إلى تعرض العمدة للمزيد من الإساءات. فهو تلقى خلال وجود ترامب في البيت الأبيض رسائل تهديد وشتائم زادت عن المعتاد بنسبة 2000 في المئة الأمر الذي اضطره لطلب الحماية الدائمة من الشرطة.
وزاك سميث، الوزير المحافظ الذي سعى في 2016 للحلول محل صديقه بوريس جونسون الشخصي، عمدة للندن، خاض منافسة حامية مع خان. واشتملت مداخلاته الانتخابية على اتهامات عنصرية ركّزت على دين منافسه أكثر مما تناولت بشكل بنّاء برنامجه أو سجله كمحامي متخصص في قضايا حقوق الانسان ووزير دولة ناجح. وحذر من أن خصمه يساعد “أولئك الذين يريدون إلحاق الأذى بشرطتنا وعاصمتنا”!
ثم جاء دور شون بيالي، مرشح حزب المحافظين الأسود البشرة لمنصب العمدة في 2020 الذي لم يكتفِ بالتعامل مع خان بأسلوب تغلب عليه “الاسلاموفوبيا”. فقد اتُهم بمعاداة الهنود أيضاً، كما تجلى في مواقف وتصريحات منسوبة إليه!
لكنه أضاع وقته في الاساءات وهُزم في نهاية المطاف بفارق كبير بلغ 10 في المئة. واستأنف العمدة بعد فوزه بولاية ثانية جهوده الموفقة لخدمة لندن ولاسيما في مجال الإسكان، والتعليم، والنقل والبيئة.
أما سوزان هيل، التي تأمل أن تخطف منه المنصب في هذه الجولة، فتمعن في الإساءة له على أساس الدين ولون البشرة. وهي قد ذهبت أبعد من كل من سبقوها. فقد كُشف عشية الانتخابات أنها تشارك في شبكة مجموعات فيسبوكية يديرها أعضاء في حزب المحافظين يزعمون أن الهدف منها هو مكافحة الضريبة البيئية التي يعتزم خان فرضها على الآليات القديمة في لندن الكبرى. إلا أن هذه المجموعات تعتبر في الواقع منبراً لعنصريين معروفين ممن يؤمنون بتفوق العرق الأبيض ومعاداة السامية ومعاداة المسلمين.
وهال التي عارضتها جمعيات مناهضة للفاشية باعتبارها “عنصرية”، تواصلت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع معادين للإسلام مثل كاتي هوبكنز، وأثنت على وصفهم للعاصمة بـ “لندنستان” بمعنى أن العاصمة ترزح تحت سيطرة الإسلامويين، مثلما زعم أندرسون! كما التقطت صور لها مع ناشطين متطرفين يشاطرون تومي روبنسون المعروف بمعاداته الإسلام وآرائه العنصرية.
ومن حق أنصار خان أن يشعروا بصدمة جراء إساءات مرشحة تقف ماكينة الحزب الحاكم وقادته وراءها. وبدلاً من أن يكبحوا اندفاعها، يعمدون إلى تشجيعها ولو بشكل غير مباشر. هذا ما فعله جيمس كليفرلي، وزير الداخلية، حين انتقد العمدة بحجة أنه يهتم بغزة أكثر من الجرائم التي ترتكب في لندن! وهال تجنت مراراً عليه باتهامه بالتخاذل في حماية لندن من الجريمة، وهي تهمة يرفضها جملة وتفصيلاً.
قد يتساءل البعض ما إذا باتت العنصرية سلاحاً معتمداً بشكل رسمي من قبل حزب المحافظين في الانتخابات؟ لكن متى كان سوناك وغيره من كبار المسؤولين في الحزب والحكومة يرفعون الصوت ضد إساءات كارهي المسلمين؟ وقد انتقد خان صمتهم المريب حيال عنصرية أندرسون. وربما كان في سره، سعيداً بهذه المواقف. فتجربة السياسي العصامي تبين أنه يزداد قوة وتصميماً كلما هاجموه!
شارك علي