غزة

علمتنا غزة..أن كسر الإرادة عسير

غزة وحدها في عراء الخليقة الدّامي،تقذفها الرّياح الكونية من بيت مهدّم..إلى قتل وحشي على مرآى ومسمع العالم..إلى هواء يتهدّم..إلى أرض تنتفض..إلى عدالة عمياء

إن الأمة التي اختارها ربها لحمل أمانة التبليغ والهداية، والشهادة على الأمم،لن تزول،وسيبقى في كل زمان منها مؤمنون صابرون،ومجاهدون صادقون،وكرام باذلون،وغيورون صادقون. -علمتنا غزة أن-لأبي رغال-أحفادا في كل زمان،ينكشفون في الشدائد،وتنزع الأقنعة عن وجوههم المصائب.

جرح مفتوح، وعدالة شائخة، وضمير إنسانيّ كسول وضرير..لا يفعل غير أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة دماء الموتى!..وأيضا: ينتظر. ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى..لكن-وحدها-شهوة القاتل إلى مزيد من الدم..لم تضجر! الدّم يشحذ شهية الدّم.

غزة وحدها في عراء الخليقة الدّامي،تقذفها الرّياح الكونية من بيت مهدّم..إلى قتل وحشي على مرآى ومسمع العالم..إلى هواء يتهدّم..إلى أرض تنتفض..إلى عدالة عمياء..إلى قاض أخرس..إلى قناص حافي الضمير..إلى ضمير أعزل وكفيف..وإلى أمل يضيق ولا يتهدّم.. وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،دون أن تُسمَع..! ودائما: ثمة شهداء يسقطون..ودائما خلف القاتل،ثمة حلفاء وقضاة وجيوش.. وخلف الضحية..العماء والصّمت..وخلف العماء والصّمت..شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر: أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب..أعراس دم.

لكن.. ثمة أمل ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت..أمل يتمطى عبر التخوم. وإذن؟ إذن،وحدك-يا إبن غزة الصامدة-بإمكانك أن تحمل بين ضلوعك أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامك.. ووحدك بإمكانك أن تقايض سخط الجلاّد الحاقد بكلمة الأمل الغاضب..فقد علّمنا التاريخ-يا إبن غزة الصامدة-أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون القوّة المدرّعة.. كما علّمنا كذلك،أنّ السفّاح-بما يريقه من دم-يحدّد الثمن النهائي لدمه.

لهذا يمكنك أن تذهب بأحلامك من حافة الموت إلى حافة الحياة حيث سترى خلف دخان الجنون وجلبة القوّة:علمَ فلسطين وشمسها ونخيلها وبساتينها وسماءها..وتحت سمائها تلألأ الرنّة السخيّة لفرح الإنسان.. هناك،وعلى التخوم الفاصلة بين البسمة والدّمعة،ستعثر على-فلسطين الصامدة-وقد هيّأت لك مقعدا مريحا ونافذة مفتوحة وسماء صافية وظلا ظليلا..ورغيفا لذيذا..وأنشودة نصر يرقص على ايقاعها أبطال ينشدون الحرية بجسارة من لا يهاب الموت..لتنزل ضيفا جليلا على مائدتها..مائدة الشهداء..والشهداء الأحياء: مائدة التاريخ.

أيا غزة الصابرة.. أنا-كاتب هذه السطور-المقيم في الشمال الإفريقي،أنا الملتحف بمخمل الليل الجريح..أنا المتورّط بوجودي في زمن ملتهب.. أعرف أنّ الوجعَ في غزة ربانيّ،كما أعرف أيضا أنّ الفعل هناك رسوليّ،لكنّي لا أملك سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم. وحتى حين يمور الدّم في جسدي باحثا عن مخرج،فإنّي لا أجد سوى الكتابة.

الكتابة عن الشيء تعادل حضوره في الزمن،ووجوده واستمراره في الحياة.ولأنّ الأمر كذلك فإنّي أصوغ هذه الكلمات علّها تصلك عبر شيفرات الحرية،أو لعلّها تصل إلى كل زنزانة محكمة الإغلاق،وإلى كل معتقل عالي الأسوار،وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار. وما عليك -أيّها”الغزاوي” الشامخ في صبرك المذهل-بل أيها الواقف على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة إلا أن تحييّ-الثورة التونسية-التي ألهمت الشعوب العربية المعنى الحقيقي للحرية،ورسمت بحبر الروح على صفحات التاريخ دربا مضيئا يعرف آفاقه جيدا عظماء التاريخ وكل الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أوطانهم من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية: صدام حسين،سبارتكوس،عمار بن ياسر،ياسر عرفات،عمر المختار،يوسف العظمة،شهدي عطية،الأيندي،غيفارا وديمتروف..وقد تجلّت في -ثورتنا الخالدة-كما في رفضنا الصارخ بطولة الإستشهاد وتجسّدت في مواقفنا الجاسرة آسمى أشكال الفعل الإنساني النبيل.. يا إبن غزة الصامدة.. علمتنا غزة أن لأبي رغال * أحفادا في كل زمان، ينكشفون في الشدائد، وتنزع الأقنعة عن وجوههم المصائب. وعلمتنا غزة أن لله بأعدائه كيدا (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) (الطارق – 14\15)، فكلما أرادوا إطفاء جذوة الجهاد في نفوس الأمة تأججت من جديد، ومن حيث أرادوا إذلال المسلمين وتشتيتهم اجتمعت قلوب المسلمين حول غزة وأهلها المجاهدين،وأخزى الله الخائنين لأمتهم وازدادوا مهانة وخزيا وبغضا في قلوب المسلمين، ومن حيث أراد العدو إرهاب المسلمين بأسلحته الفتاكة ظهر عجز القوة المادية أمام قوة الإيمان واليقين. علمتنا غزة أن هذه الأمة لم تمت ولن تموت، لأنها خلقت لتبقى حتى يقاتل آخرها الدجال كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. وعلمتنا أن الوهن مهما بلغ بالأمة مبلغه فإنه يزول متى ما تهيأت أسباب زواله.

وعلمنا أبطال غزة معنى قول الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) (آل عمران-173\174).

وأختم بالقول :لا شك أن ثبات أهل فلسطين ثبات للأمة،وأن خذلانهم خطر على الأمة في دينها ودنياها،وفي حاضرها ومستقبلها،وأن البخل في مواقف البذل من أسباب الهلاك كما قال تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (البقرة -195)، وهذا عتاب ووعيد من الله جل وعلا لمن يبخل: (ها أنتم هٰؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (محمد – 38). صبرا غزة..فإن النصر قادم.. لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء..من حسابات المتعجرف نتنياهو..وأوهام-بايدن-

محمد المحسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى