صادقت الحكومة الجزائرية الأسبوع الماضي على قرار يتعلّق بإعادة الهيكلة لقطاع التربية الوطنية مركزياً، ويشمل ذلك، بحسب المعلومات التي نشرتها وسائل الاعلام الجزائرية، إنشاء عدد من المديريات الجديدة على المستوى المركزي، منها على سبيل المثال المديرية العامة للاستشراف والمالية، والمديرية الفرعية للشؤون الاجتماعية، إلى جانب استحداث المديرية العامة للرياضة المدرسية.
من المعروف أنّ السلطات الجزائرية تولي اهتماماً خاصاً للمنظومة التعليمية سواءً تعلّق الأمر بالتعليم الابتدائي والاكمالي والثانوي، أو بالتعليم المهني، وقد بلغت درجة هذا الاهتمام، أنّ هذه السلطات تصنّف وزارة التربية والتعليم ضمن وزارات السيادة الوطنية وتخصّص لها موازنات ضخمة تقدّر بمليارات الدولارات.
وفي هذا الخصوص، قُدّرت موازنة وزارة التربية الوطنية لعام 2023 بما يعادل 8.5 مليارات دولار، وبذلك تأتي في المرتبة الثانية بعد موازنة وزارة الدفاع الوطني المقدّرة للسنة ذاتها بمبلغ 22 مليار دولار، في حين خُصّص لوزارة الداخلية والجماعات المحلية مبلغ 7.15 مليارات دولار، ويعني هذا أنّ الإنفاق على التعليم يستهلك نسبة معتبرة من الناتج المحلي الاجمالي للدولة الجزائرية، والذي يُقدّر بما لا يقل عن 224 مليار دولار.
رغم هذا الاهتمام، يلُاحظ أنّ مستوى التلامذة اللغوي، مثلاً، في مختلف المؤسسات التعليمية ما فتئ يشهد تراجعاً مخيفاً وبخاصة في مجال إتقان اللغتين العربية والأمازيغية، اللتين لم تشهدا أي تطوير يُذكر، لا سيما في مجال إخراجهما من نفق الحمولة الفكرية والمفهومية التقليدية إلى أفق الأداء العصري.
في هذا السياق، يتساءل خبراء التربية والتعليم في الجزائر: هل تكمن المشكلة المحورية التي تتسبب في ضعف منظومة التعليم الجزائري في مسائل الإشراف المالي والقضايا الاجتماعية والأمور ذات الصلة بالرياضة المدرسية فقط؟ أم أنّ جوهر المشكل هو الضعف البنيوي الذي يطغى على مستوى إطارات التعليم، من مدرّسين وأساتذة ومستشارين ومفتشين ومديرين مكلّفين بإدارة العملية التربوية، فضلاً عن تحول وزارة التربية والتعليم إلى مجرد هيكل بيروقراطي يجهل تماماً حقيقة ما يحدث في الواقع اليومي لمؤسسات التعليم. وما هي المديريات التي ينبغي إنشاؤها، وما هي الشروط البيداغوجية الأساسية التي ينبغي توفرها في أي مسؤول تُسند إليه مهمّة مثل هذه المديريات؟ ثم هل لضعف معاشات إطارات التعليم دور مفصلي في تعميق التدهور الذي ما فتئت تشهده منظومة التعليم والتربية؟.
في نظر الخبراء الجزائريين المتخصّصين في منظومة التعليم، إنّ تراجع مستوى التعليم على المستوى الابتدائي والاكمالي والثانوي له أسباب متعددة ومترابطة ينبغي ذكرها وتمحيصها واحدة تلو الأخرى. بداية ينبغي الإقرار، في تقدير هؤلاء، أنّ ضعف التعليم الابتدائي والإكمالي والثانوي هو الذي يُعدي وينشر الرداءة والضعف على مستوى مؤسسات التعليم العالي مثل الجامعات والمدارس العليا ومراكز التكوين الجامعي، فضلاً عن مختلف أطوار منظومة التعليم المهني الذي لم يشهد أي تحسن في الأداء، والدليل على ذلك هو أنّ الجزائر ينعدم فيها المتخصصون المتطورون والأكفاء في مجالات الصناعات المهنية كالبناء والمعمار، الفلاحة والزراعة، وهلمَّ جرَّا.
وفي الحقيقة، فإنّ تعميم التعليم المجاني المفروض على الجميع هو توجّه ديموقراطي بلا أدنى شك، رغم أنّ هذا الخيار لم يُدرس دراسة عصرية جادة مسبقاً.
ففي بداية الاستقلال زُجّ بكل من يحمل الشهادة الابتدائية في منظومة التربية والتعليم، وبذلك انطلق التعليم الجزائري انطلاقة عرجاء، حيث لا يُنتظر من معلّم لا يتجاوز تكوينه مستوى الشهادة الابتدائية أن يدرّس التلامذة علوم اللغة والمنطق النحوي والصرفي على أكمل وجه.
وإضافة إلى ذلك، فقد لعبت عمليات استيراد المعلمين من الخارج، من دون التأكّد من توافر الشروط البيداغوجية الأكثر تطوراً والمستوى اللغوي والمعرفي العالي لديهم، ومن ثم تمَّ الزج بهؤلاء في التعليم الجزائري الابتدائي والاكمالي والثانوي، ما أدّى إلى انتشار كثير من السلبيات التي لا تزال تواصل تأثيرها على الأجيال الحالية، سواءً كانوا مدرّسين أو مديرين أو مشرفين على العملية التربوية، وفي مقدّمة هذه السلبيات ضعف المستوى اللغوي، وتضارب لهجات التدريس في مؤسسات التعليم، فضلاً عن عدم تطابق مضامين النصوص التي درَسها هؤلاء مع أبجديات الهوية الوطنية التي أراد المسؤولون الجزائريون حينذاك بناءها رويداً رويداً على أنقاض ركام التغريب والفرنسة اللذين كادا أن يعصفا بالأركان التاريخية المشكلة للشخصية الرمزية للمواطنين الجزائريين على مدى قرن وثلاثين سنة من الكولونيالية الفرنسية.
وما يؤسف له، أنّ أمراض هذه التجربة القاسية لا تزال حاضرة وبخاصة في البرامج التعليمية الراهنة التي لم تتغيّر منذ الاستقلال بشكل جذري، وأكثر من ذلك، فإنّ تغلغل فئات المسؤولين ذوي التكوين الديني الأصولي والثقافي التقليدي إلى مؤسسات وزارة التربية قد فرض مناهج ونصوصاً أقل ما يُقال عنها إنّها جزء من التخلّف الثقافي والمعرفي البنيوي الذي أصبح ينتقل من جيل إلى جيل مثل مرض الجدري.
لا أحد ينكر أنّ عدم العناية بالتكوين الحداثي الفكري والمعرفي والبيداغوجي لإطارات التعليم الابتدائي والاكمالي والثانوي يمكن أن يُضاف إلى الضعف اللغوي باللغتين العربية والأمازيغية، وهو ظاهرة خطيرة تتسبّب في تدهور مستوى التلامذة اللغوي والمعرفي في مختلف أعمارهم. وفي الواقع فإنّ الاكتظاظ المدرسي في أقسام المدارس الجزائرية راهناً، والذي ينتج منه حشر ما لا يقلّ عن 30 إلى 40 تلميذاً في قسم مدرسي واحد، يُعدّ عاملاً سلبياً لم يجد العلاج المنشود.
وفي الحقيقة، فإنّ المشروع الفاشل للمدرسة الأساسية الذي روّجت له وزارة التربية والتعليم بإيعاز من حكومة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، قد ترك آثاراً بالغة السلبية على منظومة التعليم الجزائري.
إلى جانب ما تقدّم، فإنّ تدني معاشات إطارات التعليم والتربية لعب دوراً أساسياً في تشويه صورة المعلم في المجتمع وفي هروب الكفاءات من المنظومة التعليمية، والأدهى هو أنّ هذا الواقع المر لا يزال قائماً ولم تعالجه الحكومات المتعاقبة في الجزائر حتى يومنا هذا.
إنّ تركيز الحكومة الجزائرية الحالية على المسائل التقنية والإدارية قد أهمل جوانب أخرى ذات أهمية بالغة ومستعجلة منها، مثلاً، إنشاء المديريات المركزية والفرعية التي يفترض أن تُسند إليها مسؤولية دراسة وحل مشكلات المعلمين والأساتذة المادية والنفسية والاجتماعية، وتشكيل مرصد وطني يتكفّل بالقضاء على تدهور المستوى اللغوي والمعرفي لدى المعلمين، وفي المحيط المدرسي بشكل خاص، وكذا اختيار المقررات المدرسية المتطورة ذات الطابع الحداثي والعصري، ومتابعة تطورات بيداغوجيات المنظومات التعليمية في العالم للاستفادة منها، والإشراف على ركن مهمّ في مجال التربية الجمالية، وهو التربية الفنية والابداعية التي تتكفل باكتشاف وصقل المواهب في مجالات الآداب والفنون.