سرعان ما انخرط المغاربة في الجدال بشأن التوصيات المتعلّقة بتعديل مدونة الأسرة، حتى من دون انتظار إفراغها في قالب مشروع قانون، بين مؤيّد ومتحفّظ ومتهكّم من التعديلات، متناسيين فضيحةَ تضارب المصالح التي تفجّرت في وجه رئيس الحكومة المغربي عزيز أخنوش، في آخر جلسة للمساءلة الشهرية بمجلس النواب، في قضية بدا فيها المزج بين السياسية و”البزنس” واضحاً للعيان، في خرق سافر لمقتضيات دستور المملكة، لو حدثت في دولة ديمقراطية لعصفت بحكومتها.
تعود تفاصيل الواقعة إلى فوز إحدى الشركات التابعة لهولدينغ (شركة قابضة) “أكوا”، التي يملكها رئيس الحكومة، بصفقة لبناء وإدارة وصيانة محطّة تحلية المياه بالدار البيضاء؛ أكبر محطّة في القارّة الأفريقية. صفقة عمومية بقيمة 1.6 مليار دولار، نالت بموجبها الشركة الفائزة امتيازات ضريبة (20% فقط)، وعطاءً سخياً من المال العام، مع 50 هكتاراً من الأراضي المجّانية، زيادةً على عقد مدّته 30 عاماً مع الدولة لتوريد الماء الصالح للشرب.
حاول رجل الأعمال هذه المرّة كسر قاعدة الصمت، فخرج للدفاع عن نفسه بالقول إن فوز شركته كان في صفقة عمومية متاحة للجميع، مستغرباً مطالبة بعض الأصوات بإقصاء هذه المجموعة أو تلك الشركة من الاستثمار، فـ”الكلّ له الحقّ في المشاركة بالاستثمارات في البلاد”. لكن سرعان ما لاذ بالصمت مجدّداً، بعدما ظهر أن خرجاته الإعلامية أتت بمفعول عكسي، بتسليطها مزيداً من الأضواء على القضية مع كثرة أخطاء الرجل في معرض الدفاع عن نفسه.
بالعودة إلى حيثيات القضية، نجد الملياردير وقع (سهواً أم عمداً) في أكثر من سقطة بشأن الموضوع، بدءاً من حديثه عن طلب العروض، ما يعني خضوع الأمر لقانون الصفقات العمومية، فيما الحقيقة أن المشروع يندرج في إطار القانون المتعلّق بعقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص (12.86)، وشتّان بين الصيغ المتبعة في كلّ من القانونين. وتناقض الرجل مع نفسه أيضاً بنفيه القاطع حدوث أي تضارب للمصالح في الأمر، متناسياً أن المشروع صُنّف ضمن المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي التي تحظى بدعم الدولة، ويقدّر حسب قانون الاستثمار بنحو 30% من قيمة المشروع، بعد مصادقة اللجنة الوطنية للاستثمارات التي يتولى رئاستها رئيس الحكومة عزيز أخنوش (الفصل 89 من الدستور).
وبالعودة إلى قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الذي اعتمد عام 2015 بهدف إسناد الصفقات الاستراتيجية الكُبرى، التي لا تمتلك الدولة القدرات المالية والتقنية لتنفيذها، إلى شركات القطاع الخاص، عبر مرحلتَين، “الانتقاء الأولي”، ثمّ “الحوار التنافسي”، نجد المشرفة على لجنة الحوار التنافسي التي حسمت أمر الشركة المتأهلة لنيل الصفقة وزيرة في الحكومة، وعضوة في المكتب السياسي لحزب التجمّع الوطني للأحرار، الذي يقوده رجل الأعمال عزيز أخنوش.
زيادة على أن دفتر التحمّلات يقرّ مبدأً يقضي وجوباً بمنع أيّ شركة من الترشّح للصفقة متى ظهر أنها تتمتّع بوضعية تمنحها امتيازاً غير مشروع من بقية المترشّحين. وهذا تحديداً ما ينطبق على شركة رئيس الحكومة، لأنه على دراية واطلاع على تفاصيل الصفقة، وحتى إن لم يكن كذلك، فهناك شبهة واقعة لا يمكن نفيها، ما يحتمّ بالضرورة استبعاد شركته من التنافس.
إقرأ أيضا : فرنسا الخاسر الأكبر من تسميم العلاقة مع الجزائر
بعيداً عن السجال السياسي الذي يبقى مُجرَّد ثرثرة أمام النصوص القانونية، نقرأ في الفصل 36 من الدستور أنه “يعاقب القانون على المخالفات المتعلّقة بحالات تنازع المصالح، وعلى استغلال التسريبات المخلّة بالتنافس النزيه، وكلّ مخالفة ذات طابع مالي”. ويضيف الفصل في الفقرة الثانية توضيحاً للمجمل في الفقرة الأولى: “على السلطات العمومية الوقاية، طبقاً للقانون، من كلّ أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات”. ويزيد في الفقرة الثالثة درءاً لأيّ التباس أو تأويل مغلوط، كالذي وقع فيه رئيس الحكومة الحالي، “يعاقب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة مبادئَ المنافسة الحرّة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية”.
لقد مثّلّ تجريم تضارب المصالح أحد مستجدّات دستور 2011، وإن ثار نقاش كبير حول التوصيف الدستوري لهذا الفعل باعتباره “مخالفة” فقط، رغم أسبقية توصيف جلّ جرائم الفساد الإداري في القانون الجنائي بالجنح أو الجنايات، كما هو الحال في الفصل 245 من القانون الجنائي، الذي ينطبق على واقعة الحال “كلّ موظف عمومي أخذ أو تلقّى أيّة فائدة في عقد أو دلالة أو مؤسّسة أو استغلال مباشر يتولى إدارته أو الإشراف عليه، كلياً أو جزئياً، أثناء ارتكابه الفعل، سواء قام بذلك صراحة أو بعمل صوري أو بواسطة غيره، يعاقب بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم”.
كان تعاطي رئيس الحكومة مع موضوع الصفقة، خصوصاً جوابه “الغريب” عن سؤال برلمانية حين نصحها بالسؤال عن تاريخ والده (أحمد أولحاج أخنوش)، فرصةً ذهبية لأحزاب المعارضة، وتحديداً حزبي العدالة والتنمية والتقدّم والاشتراكية، للإمعان في المزايدة السياسية بتنظيم ندوة صحافية بشأنه. لكنّ حزب العدالة والتنمية، أساساً، صاحب مسؤولية حيال ما يحدث حالياً، لإصرار زعيمه عبد الإله بنكيران على ضم ّرجال الأعمال، بمن فيهم عزيز أخنوش، إلى حكومته في 2012، ثمّ لتفريطه خلال رئاسة الحكومة بأغلبية برلمانية مريحة، على التنزيل الأمثل للدستور، إذ لو قام بذلك بإقرار قانون يتعلّق بتنازع المصالح، بتحديد حالاتها وحصر قائمة المشمولين بها وما يترتب منها من جزاء، لصدّ الباب أمام مثل هذه التصرّفات، وسنده في ذلك النصّ الدستوري، وقبل ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي صادقت عليها المملكة عام 2007.
نجح المتحكّمون في اللعبة السياسية في المغرب منذ الاستقلال في تدبير حضور رجال المال والأعمال في المشهد السياسي، بطرق وأساليب رسمت خطوطاً تراعي التوازن ما بين المصالح (البرجوازية الوطنية)، ما أضفى على الشأن السياسي حدوداً دنيا من المصداقية لدى المواطن، قبل أن ينتشر داء ولوج أصحاب “البزنس” عالم السياسة في العالم (ترامب مثالاً). فقد قرّر هؤلاء في المغرب خوض غمار السياسة (راجع مقال الكاتب “المغرب.. أيّ أفق لإحياء تجربة النخبة الاقتصادية؟”، العربي الجديد، 2018/03/24)، لكن بمنطق التجارة والأعمال، ما أسقط مفاهيم من قبيل استغلال النفوذ والصالح العام وتضارب المصالح… من قاموس هؤلاء، وفرض إعادة النظر في مقولة العلّامة ابن خلدون: “إذا تعاطى الحاكم التجارة فسد الحكم وفسدت التجارة”، فالسياسة فعلاً تفسد، لكن تجارتهم تزدهر وتنمو.