بعد الاحتلال وكتابة الدستور الذي تضمن حق تشكيل الاقاليم (الفيدرالية)، صار اغلب المتابعين يتحدثون عن عراقات صغيرة قادمة، وأن العراق المعروف بتاريخه وجغرافيته وشعبه.
بات من الماضي أو على وشك! لقد ساق الساعون إلى الفدرلة أو التقسيم مبرراتهم، لكنهم لم يقنعوا اغلبية الناس الذين يرون أن هذه مبررات الساسة وليست مبرراتهم هم.. وفي العموم عشنا فصولا من الجدل الطويل، الذي أكل من أعمارنا نحو عقدين قبل أن ننتهي من هذه المسألة، التي خفت صوت الداعين اليها، وإن لم تنته مخاطرها طالما ان الدستور لم يعدّل.. اليوم.
وبعد أن بدأت الدولة تتنفس هواء نقيا نسبيا، يتمثل بالهدوء والأمن والشروع في بناء مشاريع خدمية تسهّل عيش الناس، وجدنا انفسنا امام تحديات جديدة قد تكون لها تداعيات خطيرة على أمن البلاد ووحدتها..
المشكلة تتمثل بوجود اكثر من مشروع تقترحه بعض الجهات الفاعلة على الأرض، وتسعى إلى انفاذه ليكون بمثابة فلسفة الدولة ونظامها السياسي، وهذه المشاريع لها مريدون ومعارضون ليس في الداخل فقط وانما في الخارج ايضا، ولعل الحرب في غزة دفعت اكثر من اي وقت مضى للإعلان عن تلك المشاريع والعمل الجاد على تحقيقها.. الدولة العراقية عبّرت وبشكل واضح عن موقفها المساند للشعب الفلسطيني ودعم ابناء غزة الذين يعيشون ظروفا قاسية.
لكن الدخول في حرب مباشرة وبشكل رسمي أمر صعب للأسباب المعروفة، ولكون القضية الفلسطينية بشكل عام دخلت في مسار تفاوضي يهدف إلى الحل السلمي الذي تعترضه ارادات متشددة في الجانبين، الفلسطيني والاسرائيلي، لكن بشكل عام يمكن القول إن حربا شاملة بين العرب واسرائيل على غرار الحروب السابقة التي كان آخرها حرب تشرين العام 1973 لن تحصل بسبب متغيرات الوضع الدولي وتغيّر المعادلة العسكرية وغياب الحليف الستراتيجي للعرب، أي إن العالم يريد إنهاء هذا الصراع بالطرق السلمية وان طال طريق المفاوضات وكثرت فيه المعوقات، كون المشكلة تنطوي على حساسيات دينية، تجعل الحسم السريع وانهاء الملفات العالقة منذ نحو ثمانية عقود ليس سهلا.
ومن هنا فإن موقف العراق الرسمي مما يحصل في غزة كان متوازنا، الاّ ان هناك فعاليات عراقية يتجاور نشاطها مع نشاط الدولة ولايعكس موقفها بالضرورة، لها رؤية مختلفة وتتبنى خطابا متشددا وعملت على رفع السلاح لدعم الفلسطينيين في غزة، وفي العموم يبقى هذا من حق تلك الجهات، لكن اذا ما حصل على الأرض العراقية فإنه يصبح في نظر العالم انعكاسا لموقف الدولة أو تواطؤا منها مع تلك القوى وهو ما يحرجها ويتعارض مع موقفها المعلن، ومن ثم تصبح في مواجهة استحقاقات عسكرية وربما اقتصادية قاسية، لا سيما أن اقتصاد البلاد بدأ للتو يتعافى وان الوضع في المنطقة والعالم بشكل عام، غير مستقر والهزّات الاقتصادية أخذت تعصف باستقرار اكثر من بلد، وان المردود المالي الذي يوفره النفط للعراقيين ويديم عجلة حياتهم اذا ما توقف بسبب عقوبات أو مشكلات فنية فان الشعب سيعيش وضعا اقسى من وضع التسعينيات.
وربما تسعى بعض القوى الدولية إلى جر العراق لذلك لأغراض واهداف قد نعرف بعضها ولانعرف البعض الآخر! لذا فان مؤتمرا وطنيا لجميع القوى الفاعلة في البلاد بات ضرورة لكي تضع كل جهة تصوراتها امام الجميع، لان ماتقوم به أي منها يدفع ثمنه الشعب كله، ولكي يكون كل فعل عراقي عاكسا لموقف الدولة وحكومتها.. فعراق واحد موحد وقوي يكفي كل أبنائه.. أفضل من عراقات كثيرة متعارضة تشتتهم وتضعفهم جميعا.