غزة

عام على حرب الإبادة: هذا أيضا وقت الحوار والمكاشفة!

الواضح تماما اليوم، أن غزة المتكئة على شظايا أنفاقها، بعدما أنهكتها أطنان الركام والمتفجرات وأتخمتها دماء شعدائها الذين بلغ عددهم حتى كتابة هذه الأسطر 41,118 شهيدا وعشرات ألوف الجرحى ودموع مئات الألوف من النازحين والثكالى والمكلومين.

إنه السابع من أكتوبر، التاريخ الذي قد يؤنبك ضميرك فيه على مجرد مواصلتك التنفس، أنت تعرف أن هذا لم يكن مفهوما ضمنا، بل تطلّب الكثير من الطاقات والجهود للتعايش مع حالة الشعور بالعجز وقلة الحيلة، وفي بعض الأحيان أدلجة الخوف بل وربما التخاذل!

ما زلنا في خضم حدث تاريخي ينفجر كلما بدا وكأنه أقرب إلى الخمود، حدث لا نعرف كيف سنبدو بعده ولا كيف ستبدو المنطقة ولا جغرافيتها أو شكلها، لذا فإن في الكتابة حول هذه الحرب في سنويتها الأولى مغامرة كبرى، فمثلما أخفقت الكثير من التوقعات والقراءات قد تخفق هذه الكتابة أيضا باستشراف أي شيء، ومع ذلك لا أجد مفرا منها، ليس بهدف ادعاء المعرفة بما “ستبدي لك الأيام” إنما من باب الرغبة الجامحة والحاجة الذاتية أولا إلى وقفة صريحة مع الذات، وأنا فعلا لست واثقا ولا منشغلا بالسؤال: أأكتب ما أكتب كانسان عادي، كابن للشعب المذبوح أو كمن يجد نفسه -وبحق- تحت المساءلة بفعل موقعه الحزبي والسياسي، كسكرتير للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة أو كعضو في سكرتاريا لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية؟

الواضح تماما اليوم، أن غزة المتكئة على شظايا أنفاقها، بعدما أنهكتها أطنان الركام والمتفجرات وأتخمتها دماء شعدائها الذين بلغ عددهم حتى كتابة هذه الأسطر 41,118 شهيدا وعشرات ألوف الجرحى ودموع مئات الألوف من النازحين والثكالى والمكلومين، هي أرض المعركة: لا على القطاع ولا على حق الشعب الفلسطيني فحسب، إنما على الشرق الأوسط الجديد، الذي لم تسعفه خيانة الرجعية العربية المتوارثة عبر الأجيال ليكون لقمة هينة في فم الاستعمار ولا كرة صوف طيعة بين مخالب قطته المدللة في المنطقة.

اذن، ليست غزة وحدها التي تتغير، ولا حتى لبنان وحده، بل المنطقة برمتها، وبطبيعة الحال فإن عاصفة السابع من تشرين الأول لم تقفز عنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني المواطنين في الدولة الوحش التي تحاول ابادته.

هذه العاصفة بدت كأنها حدث أكبر من أن تصنعه يد بشرية، وكما يفعل العقلاء عند وقوع الكوارث الطبيعية، اختبأنا نحن أيضا في بيوتنا، ولو لبرهة من الزمن، على أمل ألا تأتي العاصفة في الخارج على كل ما بنيناه – لم نكن كلنا على نفس الدرجة من الخوف والقلق، بعضنا استعاد عافيته قبل الآخرين، وبعض آخر ما زال مختبئا، لكن الأكيد أن الرهان على اقتلاع شجرة بقائنا وإن تكسرت بعض أغصانها فشل، ورغم ذلك، فإننا نمر بتغيرات كما يتغير كل شيء في المنطقة، وهنا محاولة لقراءة بعض تلك المتغيرات من وجهة نظري كابن للشعب الفلسطيني وكمواطن في الدولة الوحش إياها.

منذ السابع من أكتوبر والكثير منا يبحثون: أين هي المواطنة التي ظنها البعض سياجا يقينا من جرائم الاحتلال الممارسة بحق أبناء شعبنا ممن هم من “دون” المواطنة، أين هي الدولة العميقة التي كان من ظنها قبة حديدة أمام تفاهات العنصريين وتحريضهم؟ وأين هم الشركاء اليهود؟

لكن السؤالين الأخطرين اللذين كثيرا ما واجهناهما: أين هي قيادتنا التي ائتمناها على خطواتنا وأين، أين نحن، نحن الذين سبق أن حفظت الميادين هتافاتنا والشوارع “خبطة أقدامنا”؟!

بين المواطنة العقيمة والدولة العميقة

مسألة مواطنة المواطنين العرب في إسرائيل ومكانتهم فيها أشغلت طرفي العلاقة منذ نشأتها، ولا شك أنها هي أيضا في طور التغيرات التي يشهدها كل شيء في العام الأخير، من أجل فهم تعقيدات هذه العلاقة وديناميتها لا بد من التوقف عن التطورات التي شهدها طرفاها: النكبة أبقتنا هنا ثلة من الأيتام على موائد اللئام، فإذ بسواعد من أريد لهم أن يكونوا حطابين وسقاة ماء تصلبّ وتقلب الطاولة، ليشبوا على الطوق جماعةً قومية معتزة ومنتمية تتشبث بهويتها وملامحها لتصون ملامح وطن بأكمله، حتى بدت واحدة من أفظع أخطاء المشروع الصهيوني، الذي بات أبناؤه يعاتبون آباءه بهمس خجول: كيف سمحتم لأنفسكم بإبقائهم بيننا؟ كيف سمحتم لأنفسكم ألا تستكملوا المهمة؟!

لكننا الآن أمام جيل اسرائيلي جديد، جيل لم ينصهر في بوتقة بن غوريون الليبرالية الغربية، ليخرج حسن الهندام طيب الكلام، إنما جيل ولد وترعرع في أحضان اسرائيل الفاشيةِ المكشوفةِ، هو الإسرائيلي الجديد الذي لا يشعر بالحرج من المزايدة على أجداده والتوعد بإتمام ما فشلوا هم به!

“نكبة ثانية” صاحوا بنا في السنوات الأخيرة مرة تلو المرة وكنا نتجاهلهم غير آبهين، لربما ظنا أن هذا الكلام نوع من أنواع عته العنصريين لا أكثر، أو لثقتنا أنهم لن ينجحوا معنا نحن أبناء الجيل منتصب القامة بما فشلوا به مع أجدادنا أبناء الجيل المهزوم الذي حنت ظهره النكبة، لتبين الحرب الأخيرة بأن برامج محكمة حضرت لتنفيذ هذا الوعيد أما نحن الذين كنا واثقين من أننا أقوى من أجدادنا فجاءت هذه الحرب لتبين لنا أهمية الحذر من هذا الزهو أمام الفاشية العاتية.

التغييرات الحادثة في المجتمع الإسرائيلي، تستحق دراسة عميقة وأهم ما فيها الاقتناع بأن هذه التغيرات ليست نتيجة السابع من أكتوبر وإن كان عاملا محفزا ومسرّعا لخروج الاسرائيلي الصهيوني الجديد من الخزانة، أو للدقة، من بوتقة الصهر الصهيو-دينية. علينا الاقتناع أننا لسنا أمام أعشاب ضارة أو صِبية ضالة، كما أن هذه التغيرات لن تتوقف بسقوط الحكومة الحالية، ولا أعتقد أن الخطاب القومي للمواطنين العرب وحده يحفزها على التكاثر، فهي شديدة الحساسية حتى أمام الخطاب المدني المنزوع من أي بعد قومي، فالعربي القادر على وصول موقع اتخاذ القرار ومهما بدا مسخا سياسيا ووطنيا وصوريا عاجزا عن اتخاذ القرار – يستفزها، سواء كان في الحكومة أو في الكلية أو المشفى.

إذ أن أكثر ما يغيظ العنصريين هو أن يبدو أبناء “الأغيار” مشابهين لأبنائهم، وهذا ما يحصل كثيرا في مجتمعنا العربي النامي والمنخرط في المواقع المستفزة للفوقية القومية وأساسا في سوق العمل والعالم الأكاديمي.

اقرأ أيضا| بعد عام على «طوفان الأقصى» فلسطين والمنطقة إلى أين؟

هذا الجيل الجديد لا يجد أي حرج بممارسة العنصرية العلنية البشعة ضد العربي وإن كان مواطنا في دولته، ولا يعنيه ما قد يؤدي ذلك بنظر المؤسسات الدولية مثل OECD وغيرها من المؤسسات التي ما كانت إسرائيل لتعمل على تحسين ظروف المواطنين العرب إلا لتحسين مكانتها أمامها، إلى جانب اعتبارين مركزيين، الأول مهني بحت يرى مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي باستغلال الثروة البشرية والقدرة التشغيلية لدى المواطنين العرب الراغبين -بعكس الحريديم مثلا- بالانخراط في سوق العمل، والثاني سياسي بهدف تنمية طبقة وسطى من المواطنين العرب تنشغل بذاتها وانجازاتها ويكون لديها دوما تخسر من رفع رأسها أكثر من اللزوم للتمرد على الوضع القائم.

وهنا بودي التحفظ من المصطلح أعلاه “ما كانت اسرائيل لتعمل على تحسين ظروف المواطنين العرب”، وأن أسجل انتقادا للكثير من التحليلات التي لا ترى بتقدم المجتمع العربي إلا على أنه جزء من مؤامرة سلطوية كبرى، بينما في الحقيقة غالبية قصص النجاح تقف خلفها ملحمة من النضال والتصدي ومواجهة شظف العيش. لكن هذا الواقع المركب يضع أمامنا كمجتمع تحديا كبيرا: كيف نعمل لاستمالة الطبقة الوسطى الناشئة لتكون معنا لا علينا رغم كل الاغراءات التي توفرها السلطة؟ بالذات في حال انخراطهم في سلك الخدمة العامة وما يسمى الدولة العميقة؟

هذه المتغيرات كلها، تنعكس فيما تنعكس على الدولة العميقة التي أختلف تماما مع كل من يدعي أنها غير موجودة البتة أو أنها غير موجودة فيما يتعلق بالمواطنين العرب.

هي موجودة، وفي بعض الأحيان رفعت الغبن عن المواطنين العرب وبالأخص في مجالات لا تعتبر إشكالية ولا تشكل رافدا من روافد الصراع (كتوفير الميزانيات للشؤون المدنية مثلا)، وفي بعض الحالات لجمت اعتبارات عنصرية لصالح أخرى مهنية لكنها في حالات أخرى كثيرة ولربما هي الأكثر غلفت الاعتبارات العنصرية بتبريرات مهنية.

الدولة العميقة هذه تقف مرتكبة مشدوهة أمام الاسرائيلي الجديد الذي يستهدفها من خلال الانقلاب القضائي الفاشي الذي تعمل عليه الحكومة،ـ ويأتي هذا الانقلاب ضمن متغيرات هامة:

أولا، تعرضت “الدولة العميقة” لعملية ناجحة لا لترهيبها فحسب إنما لمأسسة وشرعنة هذا الترهيب، فملاحقة الموظفين فيها ما عادت تقتصر على تهديدات فظة من قبل سياسيين مراهقين على التيكتوك، إنما من خلال هجمة ممنهجة على مكانتهم القانونية، فمع الوقت تزيد الوظائف المعرفة كـ “وظائف ثقة” المتعلقة برضا المسؤول السياسي عن الموظف المهني، ويضرب العمل النقابي والاتفاقيات الجماعية ويجد كل موظف في معركة فردية للدفاع عن نفسه.

ثانيا، تم اختراقها بنجاح من قبل اليمين الفاشي الذي وضعها هدفا لاحتلاله كما فعل في مجال الإعلام والقضاء وغيره. صحيح أن نسبة العرب ارتفعت في الدولة العميقة، لكنها ما زالت دنيئة جدا وبخاصة في مواقع اتخاذ القرار الحساسة، كما أن الموظف العربي على الأغلب يذهب إلى هذه المناصب أعزلا إلا من مهنيته وقيمه وأما أبناء اليمين العنصري فيذهبون مدججين بمخططات أعدت من قبل مراكز ومعاهد كبرى.

ثالثا، استمرارا للنقطة أعلاه من الضروري الإشارة أن الدولة العميقة باتت تستصعب تجاهل تصريحات قادة اليمين المتطرف، ففي السابق كانت على الأغلب شعارات شعبوية جوفاء أما في السنوات الأخيرة فتقف خلفها المراكز آنفة الذكر ومنها “كوهيلت” وغيرها التي تعرف كيف تعد الخطط الرسمية والمنمقة القادرة على ارتكاب “نكبة جديدة” تستهدف وجودنا نحن “المواطنين” بالذات وكل ذلك بلغة رتيبة فائقة المهنية والعصرية!

“أين اختفى الشارع العربي وقيادته؟”

عندما يثار السؤال عن القيادة أو النخب، تشرئب الأعناق قبل أي شيء آخر لتبحث عن الأحزاب السياسية وعلى وجه التحديد عن ممثليها في الكنيست، والحقيقة هي أن العام الأخير يجب أن يضع الجميع تحت طائلة المساءلة، من الناشط والقائد السياسيين، إلى الإعلامي والأكاديمي وصولا إلى الفنان والمبدع، ولا شك أن المؤسسة عرفت كيف ترهب هذه الشرائح من خلال استهداف أسماء بارزة ومؤثرة والتنكيل بها بالبث الحي والمباشر ليكونوا عبرة لغيرهم.

أما بخصوص الأحزاب الناشطة في المجتمع العربي فلا نجدد إذ نعترف بأنها تعاني ما يعانيه الحضور الحزبي إسرائيليا وعالميا من تراجع، يزاد إليه في حالتنا هنا، تضييق الخناق والملاحقة والتحريض والترهيب من قبل السلطات والتي لم تبدأ خلال الحرب الأخيرة، لكنها تصاعدت بشكل مهووس من خلال محاولات تجريم أي نشاط احتجاجي إلى جانب الملاحقة الشخصية لعدد كبير من النشطاء والقادة السياسيين.

هذا كله أضعف جاهزية الأحزاب وتجاوب الشارع معها، وبالمقابل، لربما هي المرة الأولى التي لم تتعرض بها الأحزاب إلى محاولة استفزاز لبذل المزيد من الجهود، إذ اختفت بشكل شبه كامل ظاهرة الحراكات الشبابية أو الاحتجاجية التي نجحت في السابق بدفع الأحزاب إلى التحرك بشكل أكبر، كما أن هذا “الاستفزاز” بمفهومه الإيجابي لم يأت لا من قبل الأكاديميين ولا الاعلام أو غيرهما كما في مرات سابقة، إنما العكس.

وإن بدا دور الأحزاب والحركات السياسية في العام الأخير خافتا إلا أنني أستطيع الجزم أن دور حزبنا الشيوعي والجبهة كان الأبرز، مقابل قوى سياسية رفض ممثلوها مجرد نعت المجزرة المستمرة بالجريمة لئلا تصاب الحقيبة الوزارية المشتهاة بسوء، أو قوى أربكتها مجرد الفكرة بأن يتم إخراجها عن القانون.

في الحزب والجبهة تعرضنا لمحاولة منع عقد المجلس العام القطري، ثم لاقتحام النادي في الناصرة وإصدار أمر لإغلاق النادي في حيفا وغيرها من حملات الاعتقالات والتحريض على عدد من الرفاق المركزيين والنواب بالكنيست والدعوات المباشرة لإخراجنا عن القانون، ومقابل هذا كله تحدينا الشرطة ونظمنا التظاهرات، كما بادر نشطاؤنا إلى حملة الإغاثة “فكر بغزة” وكسرنا محاولات عزلنا وعزل جمهورنا العربي من خلال المساهمة بإقامة “شراكة السلام” العربية اليهودية.

لكن تقدمنا عن الآخرين لا يعني أننا مكتفون بما تم حتى الآن، فالسؤال الأساس: ليس مدى تقدمنا عن الآخرين، إنما هل قمنا بكل ما يتطلبه منا التحدي التاريخي؟

أستطيع أن أجزم أن الإجابة سلبية بشكل قاطع، وذلك لصعوبات ذاتية وموضوعية، تتطلب منا في الحزب والجبهة مراجعة جدية لكنها تستجوب بالأساس حوارا وطنيا تحت مظلة لجنة المتابعة، وأعتقد أن أحد الأسئلة التي علينا أن نحاول الإجابة عليها: كيف نقنع الناس بجدوى النضال؟ كيف نجترح وسائل نضالية ذات جدوى، والأهم أن تكون بثمن معقول؟

هذا السؤال بات أكثر إلحاحا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفجوة الهائلة ما بين الثمن الباهظ الذي قد يدفعه الخارجون إلى الاحتجاج وما بين القدرة الهامشية جدا، بل جدا جدا، على التأثير والتغيير!

مرة، كنا نخرج إلى التظاهرات واثقين أن بعضنا قد “ينحبس ليلة أو ليلتين.. معلش!” أما اليوم فنعلم أن الليلة في المعتقل لم تعد كما كانت في السابق، إضافة إلى أن الأنظمة الجديدة المعمول بها بحجج أنظمة الطوارئ ومكافحة الإرهاب قد تؤدي إلى فرض عقوبات مبالغ بها، كما حدث مع بعض الشبان في هبة الكرامة، أيار 2021، وأما القدرة على التأثير فهي ضئيلة جدا فعلا، إذ ينظر الناس إلى مظاهرات مئات الألوف في تل أبيب والعالم ويتساءلون دون انتظار أيما إجابة: ما قيمة صوتنا أمام هذه الأصوات؟!

طبعا، علينا ألا نسلّم بهذه الأصوات وأن نظل نحاول طرق الخزان وننظم النشاطات الاحتجاجية ولو كرسائل داخلية لنا ولأبنائنا بأننا نرفض أن نعتاد المشهد ونطبّع المجزرة – لكن هذا الأمر لا يقنع إلا دوائر النشطاء التي هي أيضا مسها ما مس المجتمع من حالة الإرباك والترهيب.

وماذا عن الشركاء اليهود؟!

الطبيعي جدا أن تعمل الأنظمة الفاشية على عزل الأقليات لتؤدي دور العدو الداخلي ويسهل الاستفراد بها، ومن الطبيعي في المقابل أن تتحدى الأقلية محاولة فرض العزلة هذه ومد جسور التعاون مع القوى العقلانية في مجتمع الأغلبية، والحلقات الأقرب في هذه المجتمعات، هي بلا شك الديمقراطية المناوئة للفاشية، وفي حالتنا نحن فتتكون هذه الحلقات من الشيوعيين والجبهويين والمناهضين للصهيونية الرافضين للفاشية والفوقية القومية لكن المؤسسة الصهيونية تشيطن هذه الجماعات بهدف أن يكون التواصل معها سببا آخر لعزلتنا لا العكس، وهنا من الضروري برأيي ألا نسلم بهذا النهج وأن نبني شراكة استراتيجية متينة مع هذه القوى مهما بلغت حدة استضعافها من قبل المؤسسة.

من هذه المنطلقات كانت مساهمتنا في الحزب والجبهة إلى توحيد كافة القوى اليسارية الراديكالية المناهضة لحرب تحت مظلة “شراكة السلام” التي أتشرف بأن أكون ضمن المبادرين إليها.

وفي المقابل، لا بد من التفكير بالوصول إلى حلقات عقلانية وإن كانت تميل إلى أن تكون جزءا من الإجماع الصهيوني رغم ما في ذلك من تعقيدات، بالذات كون الحلقات المركزية منها مذدنبة لليمين الفاشي، قد تختلف معه على الكثير من القضايا الداخلية لكنها سرعان ما تتفق معه بعدوانيته تجاه كل ما هو فلسطيني، بمن فيه نحن.

لكن الأمور دينامية ومن واجبنا أن نرى ولو بالعدسة المكبرة التناقضات داخل هذه المجموعات وزيادة الشروخ فيها وأعتقد بأن من يدرس حركة الاحتجاج في البلاد، ورغم أن قيادتها ما زالت مذدنبة لليمين الفاشي، إلا أن هنالك أوساطا منها بدأت تتخذ مواقف أكثر جرأة ووضوحا، فما بدأ بشعار من كلمة واحدة “إرحل” بات يتوسع ليشمل مطالب أخرى تتعلق برفض العنصرية والاحتلال، لكن هذا ما زال بعيدا عن النواة الصلبة للاحتجاج أو عن أحزاب المعارضة الباهتة والشريكة في الجريمة.

العلاقة مع هذه الجهات مركبة ويجب على قيادة المجتمع العربي أن تدرسها بجدية بعيدا عن المزايدة، وخاصة أن حتى الأحزاب التي تنأى بنفسها عن العمل العربي اليهودي المشترك ليست بمعزل عما قد تقوم به بعض هذه الجهات الطامحة إلى “صناعة” الرأي العام لدى المواطنين العرب في البلاد.

فالكثير من قوى اليسار والمركز التي قد يكون من الطبيعي خوض النضال معها في وجه الفاشية، ترى بالمواطنين العرب مخزونا احتياطيا للأصوات الداعمة لمشروعها وفي هذا الصدد بدأت في العقد الأخير بصناعة جديدة على مجتمعنا وهي صناعة الرأي العام، من خلال الاستطلاعات والدراسات والحملات الممولة على شبكات التواصل الاجتماعي لتدعي المرة تلو المرة سعة الفجوة بين القيادة السياسية المتعنتة سياسيا مقارنة بجمهورها البراغماتي.

ما يزيد الأمر تعقيدا أن هذه الجهات قد تجد نفسها في حالة انسجام مع أطراف من قيادة الجماهير العربية ضمن الحملات لرفع نسبة التصويت مثلا ثم في حالات تنافر في مفارق مختلفة كالانضمام إلى حكومة للمركز واليسار، أو التوقيع على اتفاقية فائض أصوات هنا أو هناك وحتى في أسئلة أكثر بساطة كالإعلان عن الإضراب أو اجهاضه.

هذه الجهات، كثيرا ما تسارع الى اتهام الجبهة وغيرها من القوى التي رفضت دخول حكومة بينط-لابيد بالمسؤولية عن تدهور الأمور إلى ما آلت إليه. طبعا هذا ادعاء تافه، أولا، لأن الائتلاف لا يسقط إلا بقرار من أعضائه، إلا أنني أدعي ادعاء معاكسا: رؤية اليمين العنصري لعرب قادرين على الجلوس حول طاولة اتخاذ القرار (وإن كانت كراسيهم منخفضة و”هزازة” غير مستقرة كقدرتهم الهامشية على التأثير) ساعدته بتأليب الرأي العام ضد الحكومة إياها وضد أي دور فعال للمواطنين العرب في الساحة الاسرائيلية، وهو ما يسميه اليمن العنصري بضرورة الاعتماد على الأغلبية اليهودية.

ما العمل؟

لا أدعي أنني أمتلك إجابات شافية على الأسئلة التي قد تبدو شكلا من أشكال الترف، مثلا، في ظل غرق مجتمعنا في دوامة العنف والجريمة المنظمة، والتي إن كانت تذكرنا بشيء فبهبة القدس والأقصى وجرائم أكتوبر 2000 – حينها ورغم بشاعة الجرائم الدموية التي ارتكبها “حمائم” حزب العمل، لم تكن التغيرات نحو فشستة المجتمع الاسرائيلي واضحة كما هي اليوم، فكان من الشائع الشعور بأنه بالامكان رأب الصدع من خلال اعادة تعريف وضبط علاقتنا بالدولة ما جعل نخب المجتمع العربي تعد وثائق التصور المستقبلي، لكن رد المؤسسة كان بركلها من أعلى “هرم ماسلو” إلى قاعه، حيث البحث عن الأمن الشخصي لا التعبير السياسي والثقافي عن الذات، وأعتقد أن المؤسسة نجحت بذلك. فكيف نرد اليوم في ظل الفاشية المستوحشة؟! كيف بإمكاننا أن نأمن على أنفسنا وأجيالنا القادمة من العيش والنوم والعمل بجوار وحش كاسر كسر كل قواعد التعايش المتعارف عليها؟

الإجابة عن هذه الأسئلة المستحقة تتطلب جهدا جماعيا بالتفكير والتخطيط والتنفيذ وما هذه المقالة سوى محاولة لطرح الأسئلة والدعوة إلى حوار وطني شامل ليتمكن كل منا المساهمة من موقعه بالدفاع عن أنفسنا كأفراد وكجماعة: من تعليم أبنائنا دورات الدفاع عن النفس، مرورا بإقامة لجان الأحياء واللجان الشعبية والأطر النقابية للدفاع عن عمالنا وشبابنا ولتعزيز حصانة مجتمعنا وتعزيز انخراطه في النضال، بحيث لا تقتصر المظاهرات على الفتية فيما يتنافخ ذو الامكانيات ضيقا من “تقصير القيادة”، ثم لما تتخذ هذه القيادة أي قرار نضالي ينأى بنفسه عن المشاركة بأي حراك قد يكلفه أي ثمن مهما بخس – كالإضراب ليوم واحد ولو على حساب إجازاته المرضية!

ووصولا إلى إقامة المؤسسات الإعلامية والحقوقية القادرة على حماية مجتمعنا ومخاطبة شعب الأغلبية وعلى تدويل قضيتنا ومخاطبة العالم برمته.

هذا كله دون أن نتمكن من التهرب من السؤال: ما العمل في ظل إصرار المؤسسة على ردم الخط الأخطر ومسحه؟ أنكتفي بالتمسك بالمواطنة التي اجترحناها بالتضحيات الجسام، أم نتطلع إلى جانب التمسك بها إلى تعزيز التواصل مع أبناء شعبنا في مختلف أماكن تواجده ونتصرف بشكل مكثف أكثر وأعمق كجزء من أبناء هذا الشعب وننخرط بهيئاته أو بعضها ونكون أكثر فاعلية في بلورة المشروع الفلسطيني الكبير، ضمن “الفكرة الكبيرة” مهما بدت “الدولة صغيرة”؟ إذا ما اعتمدنا درويش في “مديح الظل العالي”: ما أوسع الثورة وما أضيق الرحلة.. ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة.

مهما بدا هذا كله ضروريا ومهما وفاتحة لأسئلة أعمق وحوار أشمل، تبقى المهمة الملحة الآن، أن نعزز احتجاجنا ونرفع صوتنا أعلى فأعلى ضد حرب الإبادة في غزة ولبنان. فدون هذه المقولة الأخلاقية أولا وما يترتب عليها من فعل سياسي لن يكون انشغالنا بذاتنا هنا إلا واحدا من أبشع أشكال الأنانية، وهو ما لا يليق بجماهيرنا الفلسطينية هنا ولا بدورها التاريخي المحوري في مسيرة تحرر شعبنا من براثن الاحتلال وحقه بتقرير المصير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى