غزة

عام على الحرب على غزة وشعار تغيير وجه الشرق الأوسط

كان واضحا منذ بدأت الحرب و امريكا تدير الصراع من خلال مفاوضات ومبادرات حول صفقات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والقصد منها اعطاء الاحتلال الفرصة للمضي قدما في تنفيذ خطة تدمير المقاومة وبيئتها بشكل متدحرج.

مضى على الحرب على غزة وفي الضفة الغربية العام وامتدت إلى لبنان ومازالت تبدو في بدايتها. خلال هذا العام وبعد السابع من اكتوبر ٢٠٢٣ تسارع قادة الدول العظمى لتقديم الدعم لدولة الاحتلال ومنحوها الشرعية للقيام بما ترى انه مناسب تحت شعار أن لها الحق في الدفاع عن النفس.

وبدأت الحرب الطاحنة المدمرة وانتظرنا ايام واسابيع وأشهر كي نرى ردة فعل عربية جدية للضغط لوقف تدمير الإنسان والأرض الفلسطينية ولكن للأسف لم يحدث حسب التوقع والمأمول. مضى عام كامل وقادة بعض الدول الغربية الأكثر نفوذا والذين منحوا الاحتلال الشرعية بالدفاع عن النفس غير قادرين او بالأحرى مازالوا متماهين مع الاحتلال بما هو ذاهب اليه ومازال الموقف العربي باهت على حاله لا يتجاوز مستوى الإدانات الخجولة كما كان في بداية الحرب وهو أمر غير مسبوق بل ومستغرب ومازالت مطحنة الحرب تعمل كما بدأت في اليوم الاول قبل عام تحصد أرواح الأبرياء دون رحمة ودون أخلاق.

انه بات من الواضح ان تدحرج الحرب و وتوسعها في لبنان وامتدادها لا يشكل قلق لبعض من دول الغرب والعرب الاكثر نفوذا و تأثيرا في السياسة الاقليمية والدولية. وهذا لا يمكن تفسيره إلا ان ما يدور فعلا هو مشروع متفق ومتوافق عليه ويمضي بالاتجاه المطلوب ألا وهو إنهاء نفوذ ما يسمى بمحور المقاومة في المنطقة او بالحد الادنى تدمير قوته العسكرية والسيطرة الكاملة على حالة التعاظم في قوته ونفوذه في المنطقة.

وفي هذا ليس مصلحة إسرائيلية فقط بل مصلحة عربية وغربية الذين يرون مجتمعين ان تمدد وتعاظم هذا المحور المدعوم ايرانيا سياسيا وعسكريا اصبح يشكل تهديد وجوديا على انظمة الحكم في بعض الدول العربية و كذلك يهدد المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة مما يستوجب التعامل معه بغض النظر عن الاثمان التي ستدفع في سبيل ذلك.

الوضع الراهن يتطلب النظر للمشهد بواقعية سياسية آخذين بعين الاعتبار ميزان القوى سواء سياسية وعسكرية و اقتصادية بين الطرفين أو المحورين. استمرار التدمير و القتل في غزة والضفة الغربية وامتداده إلى لبنان دون حراك عربي ودولي جدي لا يعني إلا شيء واحد وهو ان هناك مشروع متفق عليه امريكا مع بعض الدول العربية و الغربية على إنهاء او السيطرة على مشروع المقاومة في المنطقة العربية وأداة التنفيذ هي دولة الاحتلال بما تمتلكه من عناصر القوة العسكرية وبدعم سياسي وعسكري واقتصادي لا محدود من الدول المشاركة في المشروع وكل حسب إمكانياته وبما يمتلك من أدوات.

الدافع من وراء قبول دولة الاحتلال تحمل مسؤولية التنفيذ دون مشاركة علنية من باقي شركاء المشروع هو انها صاحبة المصلحة الاولى بالبقاء ولديها تطلعات استراتيجية للتوسع في المنطقة سواء جغرافيا واقتصاديا وهي ايضا الوجه الطبيعي للصراع بخلاف اي دولة أخرى من دول المشروع في المنطقة التي لا يوجد لديها اي مبرر للتدخل الفعلي ومن بينها بعض الدول العربية التي لن تستطيع تبرير مشاركتها العلنية لشعوبها لخشيتها من تعاظم الاحتجاجات وحدوث انقلابات في هذه الدول مما يهدد استمرار المشروع.

وعليه فإن دورها المعلن سوف يبقى لا يتجاوز مستوى تصريحات التنديد الضعيفة دون مستوى الحدث مع التركيز على المساعدات الانسانية وذلك لتسكين شعوبها ولكن دورها الخفي أعظم سواء بإعطاء الشرعية لما يقوم به الاحتلال او بتسهيل مهمته بالدعم اللوجستي و المالي و الأمثلة على ذلك كثيرة.

لم تقدم دولة الاحتلال على عملية التنفيذ بهذا الحجم وهذه القوة الغاشمة الا بعد ان حصلت على الموافقة وكافة الضمانات من جميع الدول المشاركة في المشروع واهمها تأمين الحماية من تهديد إيران حال نشوب حرب شاملة اضافة إلى ضمان تأمين الإمداد العسكري والدعم الاقتصادي. ومن الواضح ان الشركاء قد تعهدوا لها بذلك وتم تأمينه على مدار العام الماضي ومازال مستمر عرف منه ما عرف وما خفي اعظم.

ويتلخص دور دولة الاحتلال في هذا المشروع هو رأس الحربة في مواجهة و القضاء على وجود قوى ما يسمى بمحور المقاومة الأقوى نفوذا و تجهيزا والمحيطة بها وهي: حركة حماس في غزة، فصائل المقاومة في الضفة الغربية، وحزب الله في لبنان بالمقام الاول ومعاقبة حاضنتها الشعبية المدنية عقابا قاسيا يجعل من حياتها اليومية غاية في الصعوبة بدرجات ادنى كثيرا من الادمية لإجبارها على ان تنفك عن موالاتها ودعمها لهذه الحركات.

حجم الخسائر البشرية والمادية الهائل المرتب على هذه الحرب لا يشكل اي حساسية لدى اي من شركاء المشروع ومن وجهة نظرهم دور الاحتلال بهذا الشأن مستوعب و متفهم و مبرر بل متفق عليه بدليل انه لم يتخذ اي موقف جدي لوقف إطلاق النار على الرغم من الخسائر البشرية والدمار الشامل الغير مسبوق في غزة على مدار عام مضى وذلك لان الهدف الرئيس للمشروع مازال لم يتحقق.

ويدرك الشركاء ان حجم الخسائر سوف يكون كبير وغير مسبوق ويروا انهم ضحايا لمشروع واعد على الرغم انه بات يشكل الكثير من الحرج لهم امام شعوبهم و الكثير من شعوب العالم. أما بخصوص الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق و سوريا، فسوف يتم التعامل معهم بطريقة مختلفة عبر ضغوط واتفاقيات مع دولهم واستراتيجية العصى و الجزرة مع بعض الضربات الجراحية عند الحاجة. أما التعامل مع راعي محور المقاومة ايران فسوف يختلف تماما بعد تقطيع او بالحد الادنى شل أذرعته الضاربة ومحاصرته من كل الجهات وبكل السبل.

هذا هو الواقع الان و لكن السؤال هل يمكن إنهاء أطراف المقاومة فعليا؟ بطبيعة الحال لا يمكن القضاء على الايديولوجيات والفكر مهما استخدمت من أدوات ودول المشروع مدركة لهذه الحقيقة وما تعمل عليه هو إنهاء القدرات العسكرية لهذه الأطراف ومنعها من السيطرة على الجغرافيا و إعادة بناء ذاتها مرة اخرى على الإطلاق.

كما وانه مقبول لديهم ان تشارك هذه الأطراف في الحياة السياسية في دولها مع ضمان مراقبتها كل الوقت و ان تبقى اقلية غير مسيطرة وغير مؤثرة في الحياة السياسية و لا تمتلك ادوات القوة العسكرية. وهذا يعني حقيقة واحدة وهي ان الحرب سوف تستمر في لبنان كما حدث ويحدث في غزة بغض النظر عن النتائج الكارثية التي سوف تحدث ولا حدود للجغرافيا خلال العملية العسكرية كما يقال انها عملية محدودة بل سوف تستمر وتتمدد وتتدحرج طالما تطلب الامر لتحقيق هدف انهاء قوى المقاومة المسلحة و الدليل على ذلك تكرار اجتياح مناطق في قطاع غزة مرات متكررة بعد اعلان الاحتلال انتهاء العمليات العسكرية فيها وذلك لتصفية أو تطهير جيوب المقاومة من خلال تنفيذ ما عرف بـ خطة الجنرالات تدريجيا.

على مدار عام من الحرب و العدوان سعي الاحتلال دائما على ابقاء عقدة تسمح له بمواصلة الحرب لتحقيق الهدف الكبير المتفق عليه وهو القضاء على المقاومة نهائيا. ومن هذه العقد المماطلة وتعطيل التوصل لصفة الاسرى لأنه ببقائهم في غزة يبقى مبرر الحرب قائما طالما أن الهدف الكبير مازال لم يتحقق.

إنهاء هذا الملف كان سيضاعف الضغوط على الاحتلال لإيقاف الحرب وهذا ما لا يصب في مصلحته ومصلحة شركاء المشروع بمعنى ان الهدف (المشروع) هو اهم من حياة الرهائن وكذلك يعتبرهم ضحايا لمشروع مهم ينهي تهديد وجودي استراتيجي على دولة الاحتلال و يضمن لها الامن والانفتاح على العالم العربي. وهذا ينسحب ايضا على جنوب لبنان حيث اصبح تنفيذ القرار 1701 ليس كافيا من وجهة نظر الاحتلال بل يطالب بنزع سلاح حزب الله و هو يعلم ان ذلك شبه مستحيل الان بمعنى انه يصنع العقدة المستحيلة لتبرير استمرار الحرب.

اقرأ أيضا| بن غفير يتحدى ستارمر.. ماذا قال عن فرض عقوبات على إسرائيل؟

كما أن الاحتلال يقوم بإطلاق اهداف صغيرة حتى تستوعب من المجتمع الدولي و يتجنب الاعتراض ولكن هذه الاهداف متغيرة ومتدحرجة نحو الهدف الكبير وهو إنهاء المقاومة وهو الهدف المتفق عليه بين شركاء المشروع و مثال على ذلك كان عملية محدودة في جنوب لبنان و اليوم اصبحت التصريحات تشير الي حرب شاملة في لبنان.

في ظل هذا الواقع من معطيات ومؤشرات يمكن استخلاص اهم معالم المشروع المقصود:

١. تسليم مهمة حفظ الامن في المناطق الجغرافية التي سوف ينسحب منها الاحتلال في غزة و جنوب لبنان بعد انتهاء الحرب وتحقق الاهداف الى قوة امن دولية الى حين تتمكن قوى الامن المحلية من تسلم المهمة.

٢. التمكين التدريجي لسلطات الدول في لبنان و فلسطين من السيطرة الكاملة على جغرافيتها و تعزيز مكانتها الأمنية و العسكرية و الاقتصادية بعد إجراء إصلاحات جوهرية على أنظمة الحكم فيها تضمن أمن دولة الاحتلال على البعد الاستراتيجي و يتماشى مع السياسة الأمريكية في المنطقة.

٣. انشاء منطقة او حزام أمني عازل في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان لعدة كيلومترات وفق خطة الجنرالات سواء دائم او مؤقت. وقد يكون دائم في قطاع غزة مع امكانية توسيع القطاع باتجاه الجانب المصري عبر احياء اتفاق قديم كان ضمن صفقة القرن. وحدوث ذلك يعتمد على مدى تعاطي الجانب المصري مع ذلك وكذلك على الفائز في الانتخابات الامريكية. ولكن السيناريو الاكثر ترجيحا هو أجراء عملية تطهير متدرجة لمناطق قطاع غزة من خلال تفريغها من السكان ثم إعادتهم إليها عبر تفتيش وتدقيق مشدد و محكوم.

٤. اعطاء فرصة للإسلام السياسي للمشاركة في الحياة السياسية ولكن تحت السيطرة و الرقابة المشددة من أجهزة الامن في هذه الدول وتحت اشراف ومتابعة أمريكية مباشرة مع ضمان منع اي فرصة لظهوره كقوة مؤثرة مجددا و دون القدرة على امتلاك الوسائل العسكرية.

٥. التطبيع الكامل بين دولة الاحتلال وباقي الدول العربية و تنفيذ خطة دمج اقتصادي لدولة الاحتلال في المنطقة.

٦. وبعد عدة سنوات من الاستقرار و إثبات قدرتها على ضبط الامن و حسن الجوار يتم الموافقة على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح بظروف خاصة شبيهة بالحكم الذاتي و لا ترتقي لمستوى دولة مستقلة ذات سيادة كاملة (دولة مقيدة في جميع المجالات). هذا مع الإبقاء على جميع المستوطنات الكبيرة لإجراء عملية مبادلة ديمغرافية لاحقا من خلال المفاوضات.

٧. الدول العربية الغنية و بعض الدول الغربية تتحمل فاتورة/تكاليف إعادة اعمار ما دمره الاحتلال في غزة والضفة و لبنان و فتح آفاق اقتصادية كبيرة وتحسين ظروف المعيشة للسكان بشكل ملموس.

٨. إجبار ايران لوضع برنامجها النووي و برنامج الصواريخ الباليستية تحت الرقابة الكاملة لضمان عدم قيامها بتطوير سلاح نووي. و هذا يعتبر خيار بديل عن الخيار العسكري في حال لم تتصاعد الامور عسكريا خلال الايام والاسابيع القادمة بحيث يمنح دولة الاحتلال الفرصة والشرعية لضرب المفاعل النووي الإيراني مباشرة مع تصاعد الهجمات المتبادلة بين الطرفين وهذا ما يسعى اليه الاحتلال باعتبارها فرصة ذهبية قد لا تتكرر.

ما يدور في الشرق الأوسط وهذا المشروع الأمريكي الغربي العربي لا يحدث بمعزل عما يدور من حرب في روسيا و اوكرانيا او بمعزل عن التوسع الصيني و التحالفات الصينية الروسية و كوريا الشمالية. مشروع الشرق الأوسط هو خطوة مهمة لتعزيز سيطرة القطب الأمريكي الواحد على منطقة الشرق الأوسط وضمان استدامتها بما فيها من خيرات ولتمهيد الطريق لسيطرة دولة الاحتلال الاسرائيلي وتغلغلها داخل الشرق الأوسط خدمة لمصالحها ومصالح راعيها الولايات المتحدة خصوصا بعد ما استشعر الأمريكي تزايد العلاقات الصينية في الشرق الأوسط.

وبهذا يتم قطع الطريق امام محولات الصين و روسيا من تحقيق اي سيطرة حقيقية داخل الشرق الأوسط تحضيرا لعالم متعدد الأقطاب. كما أنه من مصلحة روسيا انشغال امريكا في صراع اخر مما يخفف عنها ثقل تركيزه على حربها في اوكرانيا و يقلص الإمداد الحربي لحكومة كييف. بمعنى ان روسيا معنية في تأجج صراع الشرق الأوسط و تدفع باتجاهه من خلال ايران لما لها من مصلحة في ذلك.

ما تقدم يعبر عن تحليل واقعي للاتجاه العام للأحداث والسؤال الكبير هل سيتمكن محور الاحتلال و شركائه من تمرير أو بالأحرى فرض هذا المشروع؟ أو بطريقة اخرى: هل سيتمكن محور المقاومة من الصمود امام هذا الهجوم الكبير وإفشاله؟ الاجابة على هذا السؤال يحكماها ما يدور من تطورات في ميدان المعركة في نهاية المطاف.

ومع ذلك يمكننا استشراف القادم من الاتجاه العام للأحداث وما وصلت اليه بعد عام من الحرب في غزة ومستوى الاستنزاف الذي بلغه الطرفين. ما من شك بان جميع الأطراف سواء الاحتلال او المقاومة تسعى من خلال العمليات العسكرية الى اضعاف او الضغط على الجبهة الداخلية والحاضنة الشعبية للطرف الاخر كأحد ادوات وربما اكثرها تأثيرا على مجريات الحرب. و من الواضح ان الجبهة الداخلية للطرفين تستنزف في هذه الحرب وبطرق مختلفة.

في حين ان الاستنزاف على مستوى الحاضنة الشعبية والجماهيرية للطرفين قد بلغت مستويات مرتفعة الا انها أعلى على مستوى الحاضنة الشعبية للمقاومة سواء في غزة أو جنوب لبنان و ذلك لما مارسه الاحتلال من تدمير شامل وقتل وتهجير وتجويع ممنهج من خلال القصف الجوي المكثف. وفي نفس الوقت فإن قدرة الشعب الفلسطيني و اللبناني على التحمل لفترة اطول قد تكون اكبر نظرا لاعتبارات وطنية وأيديولوجية وكذلك عدم وجود خيار آخر.

وبالمقارنة فإن الجبهة الداخلية للاحتلال بدأت تأن على الرغم من أن ما طالها من عواقب الحرب لا يقارن مطلقا بما طال أهل غزة ويطال أهل جنوب لبنان الان. مدى تأثر الجبهة الداخلية للطرفين يرتبط بمستوى الرفاه الذي يعيشه شعب كل طرف. و نظرا لارتفاع مستوى الرفاه لدى الجبهة الداخلية لدولة الاحتلال فإن القليل من الضغط العسكري يؤدي إلى تأثير أكبر بخلاف الجبهة الداخلية للطرف الفلسطيني او اللبناني حيث مستوى الرفاهية متدني و يدرك الاحتلال هذه الحقيقة و بالتالي يستخدم كل سبل الضغط و الاخضاع سواء كانت مشروعة او غير مشروعة لإنهاك الحاضنة الشعبية لقوى المقاومة.

أما بالنسبة للإمدادات العسكرية و الدعم الاقتصادي فإن إمكانيات دول المشروع في دعم الاحتلال اكبر بكثير مما هو متاح لدى محور المقاومة علاوة على قيام الاحتلال باستخدام خطوط الامداد و فرض حصار عليها بمشاركة شركاء المشروع.

كل من الطرفين يرفع شعار انه سوف يغير وجه الشرق الاوسط وهذا سقف مرتفع تجاوز حدود الصراع مما يؤكد انه لا مكان للحلول السياسية في هذه المرحلة على الأقل. وانه من الواقعي فهم ان هذا السقف المرتفع يرتبط برؤية الطرفين للتهديد الوجودي الذي يشكله كل طرف على الاخر مما يزيد من اصرار كل طرف على تحقيق اهدافه أو منع الطرف الآخر من بلوغ أهدافه.

وفي هذا السياق الصراع الان في مرحلة كسر العظم و ينتقل إلى ما يمكن تسميته بكسر الرؤوس وهو المرحلة الأكثر قسوة لأنه لن يقبل اي من الطرفين الخروج مهزوماً علنياً من هذه الحرب. تشهد المنطقة هذه الايام نشاط سياسي ودبلوماسي نشط (يتضمن الاستنزاف سياسي) من اجل تجاوز ذلك ولكن اللاعب الأهم (الولايات المتحدة) لا يمارس دور ضاغط على الاحتلال لأنه راعي لمشروع حماية أمن دولة الاحتلال و ملزم بمدها بكل اسباب القوة و إدماجها في الشرق الاوسط كما و أن تحركه الدبلوماسي محسوب بدقة هذه الايام مرتبطا بالانتخابات القادمة مطلع نوفمبر القادم.

وكان واضحا منذ بدأت الحرب و امريكا تدير الصراع من خلال مفاوضات ومبادرات حول صفقات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والقصد منها اعطاء الاحتلال الفرصة للمضي قدما في تنفيذ خطة تدمير المقاومة وبيئتها بشكل متدحرج و ليس إيجاد حلول للصراع. كل ما كنا نسمعه عن صفقات تبادل أسرى هو للاستهلاك اليومي و بقاء الرهائن في غزة حتى الان يخدم دولة الاحتلال فعليا لأنه في حال تم انهاء هذا الملف فلن يتبقى هناك مبرر لمواصلة العمليات العسكرية بهذا الزخم و بالتالي لن يتحقق الهدف من المشروع المقصود.

ارى ان الابقاء على الرهائن في غزة وعدم الذهاب لاتفاق يندرج تحت الخطة العامة للمشروع الكبير كي يكون هو الذريعة لمواصلة الحرب باتجاه إنهاء المقاومة. والمراقب يلاحظ ان دولة الاحتلال ربطت الحرب في الشمال في لبنان بهدف إعادة السكان لمستوطنات الشمال وكذلك للضغط على حماس في غزة لتحرير الرهان. بمعنى ان دولة الاحتلال تدرك انه لا عودة لسكان الشمال دون القضاء على القوة العسكرية وتحديدا الصاروخية لحزب الله وهذا يعني انها حرب طاحنة شاملة وليس مجرد عملية محدودة. وهدفه الثاني هو الضغط على حماس لتحرير الرهائن هو فقط للاستخدام السياسي امام الرأي العام للتذكير بأن قضية الرهائن مازالت قائمة مع أنه بقائهم لدى حماس يخدم مصلحته من خلال منحه المبرر لمواصلة العمل العسكري لتحقيق الهدف العام للمشروع.

هل ستتمكن الدبلوماسية من اقناع الاحتلال لتغيير اهداف الحرب ودفعه للقبول بوقف اطلاق النار غير مشروط. كما ذكرت سابقا، اعتقد ان ذلك ممكن لو كان الاحتلال بمفرده ولكن في ظل تحالف متعدد على مشروع استراتيجي محدد فإن احتمالات ذلك ضعيفة جدا طالما انه لا يضمن إنهاء سلطة حماس العسكرية والمدنية في غزة و تمكين سلطة شرعية متفق عليها ودون تقويض قدرة حزب الله العسكرية في الجنوب اللبناني وتمكين الجيش اللبناني من السيطرة سواء كان ذلك عاجلا أو بعد مرحلة انتقالية تتولى فيها قوة حفظ سلام أممية السيطرة لحين تجهيز الاوضاع لتسلم السلطات المحلية. و يصبح السؤال المهم هو هل يمكن ان تقبل ايران بهذه النتيجة المتمثلة في خسارة اهم اقطاب في محور المقاومة الحليف لها و تخسر معها قوة التأثير في سياسة الشرق الأوسط.

وبطريقة اخرى، هل ستعيد ايران صياغة أولوياتها بما يتعلق بدعمها لقوى المقاومة والنظر لمصلحتها الذاتية في ظل هذا المشروع الذي يلقى دعم من محور تتوفر لديه كل المقومات و القوة و في ظل تنامي القناعة لدى ايران ان الموجة عالية كثيرا وقد لا تتمكن من مواجهتها منفردة؟ اعتقد ان هناك حراك دبلوماسي مكثف الان في صلب ذلك ويتركز في كيفية الجمع بين مصلحة ايران الداخلية وعدم ظهورها في موقف المتخاذل امام محور المقاومة. بمعنى إيجاد صيغة توافقية يتم خلالها تجنب سياسة كسر الروس مع انه مطلب استراتيجي لدول المشروع وهو ما سيعملون عليه في الفصل الثالث منه بعد اليمن والعراق وسوريا في الفصل الثاني.

ومع ذلك فإن بوادر حدوث ذلك ما تزال ضعيفة للغاية و الاتجاه العام يشير الى أن الامور ذاهبة لتصعيد من الصعب قراءة اتجاهاته وتداعياته. و لكن و بالحد الأدنى ارى ان دولة الاحتلال بالتحديد سوف تحقق ما ذهبت اليه وهو ضمان امنها الاستراتيجي على الحدود الشمالية والجنوبية من خلال اتفاق سياسي لوقف إطلاق النار بعد أن تكون قد فرضت واقع عسكري على الارض و اضعفت قدرات المقاومة العسكرية لأقصى درجة ممكنة وانهكت حاضنتها الشعبية من خلال القتل الممنهج للمدنيين والتهجير و التجويع و الامراض. لن تسلم دولة الاحتلال بخلاف ذلك بعد كل ما قامت به في غزة و الضفة الغربية على مدار عام و تكرره الان في لبنان. و بهذا تكون دولة الاحتلال قد حققت هدفها من المشروع حتى لو لم تتحقق باقي أهداف المشروع.

و مع ذلك و في نفس الوقت لا أرى أن هدف انهاء قوى المقاومة ممكن تحقيقه بالرؤية التي تريدها دول التحالف او المشروع. و عليه سوف يصبح تقويض و السيطرة على قدراتها هدف اكثر قبولا و واقعية و كي يتحقق ذلك سيتطلب الامر وقت طويل من العمل الدبلوماسي اقليميا ودوليا مع جميع الاطراف و وضع الخطط العملية القابلة للتنفيذ.

وكل هذا منوط بمن من الطرفين قادر ان يفرض الواقع العسكري الذي يقوي موقفه خلال عملية التفاوض لاحقا. وقسوة العمليات العسكرية التي ينفذها الاحتلال و اصرار قوى المقاومة على اثبات قدراتها كله مبني على هذا الاعتبار …. لمن ستكون الغلبة ليفرض شروطه أو يقوي موقفه بالحد الأدنى. على كل حال لا يمكن ان يفرض السلام بالقوة القاهرة التي دمرت الانسان و كافة مقومات الحياة. ما تعرض له اهل فلسطين و لبنان و ما شاهدته الأمة العربية سوف يترتب عليه تعاظم في حالة النقمة على الاحتلال و يجعل مرور اي مشروع تطبيع و ادماج له في الشرق الأوسط أمر ليس بالهين. كما و ان الجيل الذي مر بهذه التجربة بقسوتها ودون نصير او مغيث وهو صاحب الحق لن ينسى ولن يغفر على المدى الطويل و سوف يكون اكثر تطرفا إزاء قبول وجود الاحتلال و أكثر اصرارا على الانتقام للحصول على حقوقه الوطنية.

ما سبق من تحليل شامل للوضع الراهن يؤشر إلى اننا مازلنا بعيدين عن نهاية هذه الحرب الظالمة على الرغم من العدد الكبير من الضحايا والدمار الهائل والظروف المعيشية دون الادمية التي يعيشها شعبنا لان معالم الغلبة او التراجع لاحد المحورين لم تظهر جليا بعد. وهذا يعني ببساطة وألم شديد انه ستمضي أشهر أخرى او اكثر قبل ان تتوقف فوهات البنادق حيث سيسقط و يصاب خلالها المزيد من الأبرياء ويعاني المواطنين معاناة تعجز الكلمات عن وصفها. وهذا قبل ان يبدأ مشوار عشرات السنين من المعاناة نظرا للعيش في ظروف قاسية للغاية تحت مستوى الادمية بكثير نتيجة للدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية ناهيك عن الدمار الذي لحق بالإنسان والخسارة التي لحقت بجيل كامل على كافة المستويات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى