إيران

طهران بين القبول بعودة “الإصلاحيين” والصراع بين “المحافظين”

حال الاستقطاب التي أحدثها صعود حظوظ مرشح الإصلاحيين خلال الأيام الأخيرة قبل موعد الانتخابات، دفعت المرشد للتخلي عن كل محاذيره والدخول بشكل موارب على السباق الرئاسي لمصلحة تعزيز صفوف مرشح النظام ومنظومة السلطة

يمكن القول إن جولات الحوار والمناظرات الخمس التي جرت بين مرشحي الانتخابات الرئاسية الإيرانية كشفت بوضوح عن أن الحسابات التي حكمت عملية الهندسة التي قام بها مجلس صيانة الدستور لتحديد الأسماء النهائية المشاركة في السباق الرئاسي، لم تكن متوافقة مع “حقل” الحقائق السياسية والاجتماعية واتجاهات الشارع الإيراني، وأيضاً مع حقل الأهداف التي يريدها النظام ومنظومة السلطة التي سعت إلى إجراء انتخابات من دون صعوبات تعرقل وصول وفوز مرشحها المطلوب.

ولعل الخطأ الأول في حسابات “النواة الصلبة للنظام” جاء نتيجة التقديرات غير الواقعية بعدم قدرة المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان أن يتحول إلى “جرعة منشطة” للقوى الاصلاحية والمعتدلة، وأن تستطيع هذه القوة إعادة ترميم قواعدها الشعبية وتحريك الشرائح الرمادية والمعترضة، وحشدها خلف مرشحها الوحيد في السباق الرئاسي.

وهذا يكشف عن أن هذه “النواة”، ومعها مجلس صيانة الدستور، تعاني أزمة فهم الواقع الذي وصل إليه المجتمع الإيراني من خلال الآليات التي يسمح بها الدستور، وعلى رغم عدم قبوله بها فباستطاعته أن يُلحق بمشروع هذه المنظومة هزيمة سياسية.

وليس من الضروري أن تنتهي حكماً بانتخاب المرشح الإصلاحي ووصوله إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، وأن يحتل الموقع الثاني في هرمية النظام والسلطة خلف المرشد الأعلى للنظام، بل من خلال زعزعة الأسس التي حاولت هذه المنظومة تكريسها في الحياة السياسية، بخاصة تلك التي كانت تمهد لموت المعارضة أو الصوت المختلف في الفعل السياسي الإيراني.

التطورات التي شهدتها المنافسات الانتخابية إلى عشية يوم الاقتراع تشير إلى أن النتائج لن تحسم من المرحلة الأولى التي ستجرى غداً الجمعة، وأن معرفة شخصية الرئيس الجديد قد تتأخر إلى الخامس من يوليو (تموز) المقبل، وأن هذا التأخير قد يضع هذه المنظومة والقوى الموالية لها أمام حقيقة مرة، على عكس كل توقعاتها والجهود التي بذلتها في هندسة المسار الذي ستكون عليه عملية التنافس.

وهذه الحقيقة تتلخص في أن الطرف المنافس لمرشحها في المرحلة الثانية للانتخابات لن يكون ضمن صفوفها، بحسب ما خطط، وأن مرشحها المنتقل إلى المرحلة الثانية سيكون في مواجهة مرشح القوى الإصلاحية.

هذه الحقيقة ظهرت بشكل واضح في كلام المرشد الأعلى للنظام آية الله علي خامنئي قبل ثلاثة أيام من فتح صناديق الاقتراع، وأن المعطيات الميدانية التي يملكها المرشد تكشف عن وجود قناعة لدى منظومة السلطة بأن الأمور قد تذهب بشكل جدي لتكون في مصلحة مرشح “الإصلاحيين” مسعود بزشكيان، فالإشارات التي تضمنها كلام المرشد والانتقادات والثوابت التي وضعها على الفائز بالانتخابات تؤكد وجود تقديرات حقيقية بإمكان أن يحدث مرشح “الإصلاحيين” مفاجأة من خارج السياقات المطلوبة.

الشروط التي وضعها المرشد أمام مرشح “الإصلاحيين” في حال فوزه كانت تهدف إلى رسم الإطار العام الذي يجب على الرئيس الجديد الالتزام بها، ورفع بوجهه بطاقات حمراء كثيرة الهدف منها تحذيره من عواقب التفكير بالذهاب في التعارض مع السياسات العامة والإستراتيجية للنظام إلى النهاية، بخاصة في ما يتعلق بالآليات التي يجب أن يعتمدها في اختيار فريق عمله الوزاري والسياسي، وألا يختار في فريقه أية شخصية “لديها أي موقف ولو بالحد الأدنى مع الثورة”، أو لديه استعداد لتقديم تنازلات مبدئية بهدف الحوار مع أعداء إيران، وتحديداً الولايات المتحدة.

وعلى رغم حرص المرشد على عدم الدخول بشكل مباشر على خط السباق الرئاسي، أو أن يتخذ موقفاً واضحاً لمصلحة أو ضد أي من المرشحين، إلا أنه في موضوع بزشكيان لم يستطع أن يلتزم بهذا الحياد النسبي، بخاصة في المسألة المتعلقة بالخلفية العقائدية والفكرية والدينية للنظام الإسلامي التي تقوم على مسلمة أساس بالسعي إلى إقامة حكومة إسلامية، على غرار حكومة “الإمام علي بن أبي طالب”.

وأمام لجوء بزشكيان في كل مرافعاته وحواراته ومناظراته الانتخابية للاعتماد أو الاستشهاد بتوجيهات وكلام الإمام علي وكتاب “نهج البلاغة”، وتحديداً في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر، والذي كشف بوضوح عن ضحالة الثقافة “العلوية” لدى المرشحين المحسوبين على التيار الديني والمحافظ، على رغم الشعار الذي يرفعونه مع النظام بالعمل على إقامة هذه الحكومة العلوية.

والأمر الذي دفع المرشد إلى استغلال مناسبة “عيد الغدير” الذي يمثل العيد المحوري والأساس لدى المذهب الشيعي الإمامي، وأن يستعين بكلام الإمام علي و”نهج البلاغة”، على عكس خطابه خلال المناسبة نفسها العام الماضي، ليقول لمرشح “الإصلاحيين” إنه قادر على استخدام الأدوات نفسها التي يعتمدها في نقد السلطة والحكومات التي جاءت بها لتحذيره من الركون إلى وعود الأعداء، عندما استشهد بقول الإمام علي “والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدن، حتى يصل اليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه”، مضيفاً أن “ابتسامة العدو الأميركي لا تعني أن نطمئن إليه وإلى أهدافه”.

حال الاستقطاب التي أحدثها صعود حظوظ مرشح “الإصلاحيين” خلال الأيام الأخيرة قبل موعد الانتخابات، دفعت المرشد نحو التخلي عن كل محاذيره والدخول بشكل موارب على السباق الرئاسي لمصلحة تعزيز صفوف مرشح النظام ومنظومة السلطة.

وهذا الدخول يتزامن مع تراجع واضح لنشاط المؤسسة العسكرية العلني في هذه الانتخابات التي اختارت العمل من خلف الكواليس، من أجل إعادة تنظيم صفوفها قبل موعد الاقتراع والضغط لقطع الطريق على تشتت أصوات قواعدها الشعبية بين مرشحين عدة، ومن المرجح أن تضغط باتجاه فرض انسحابات لمصلحة واحد من مرشحي القوى المحافظة، والمرجح أيضاً أن يكون محمد باقر قاليباف الذي يعتبر الأقرب إلى جسم النظام وسياساتها والنواة الصلبة للسلطة، أو سعيد جليلي الذي يملك قاعدة أصوات واضحة أكبر من قاليباف، وأن تكون أكثر استعداداً لخوض المرحلة الثانية في حال عدم حسم النتيجة من المرحلة الأولى.

ولا شك في أن النظام يدرك تراجع قدرته على استقطاب أصوات المدن الكبرى والأساس، مثل العاصمة طهران وأصفهان وتبريز وشيراز وغيرها، ولذلك فإن جهوده ستنصب على استقطاب أصوات القرى والنواحي والأطراف التي تتأثر بشكل كبير بموقف المرشد الأعلى والقوى الدينية، مما دفع المرشد إلى الحديث بأن توسيع المشاركة الشعبية لا يعتمد على أصوات المدن، بل أيضاً على هذه الأطراف التي يمكن أن تعيد ترميم الشرعية التمثيلية للنظام والسلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى