نشر معهد «تشاتام هاوس» البريطانى،، تحليلاً تحت عنوان «طموحات تركيا فى مجال الطاقة تكتسب زخماً جديداً بعد سقوط الأسد». وأشار كريم الجندى، وهو زميل مشارك بالمعهد، إلى أن أنقرة بإمكانها توظيف المعارضين السوريين للتفاوض على اتفاقيات دفاع مواتية مع الحكومة الجديدة فى دمشق، على غرار اتفاقيات مماثلة عقدتها أنقرة مع دول أخرى كالصومال وليبيا. ومن شأن مثل هذه الترتيبات أن توسع بشكل كبير العمق الاستراتيجى لتركيا بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
يمثل ترسيم الحدود البحرية فرصة حاسمة أخرى، فقد تكون الحكومة السورية الجديدة أكثر استعداداً للاعتراف بمطالبات المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية فى شرق البحر الأبيض المتوسط؛ مما يعزز موقف أنقرة فى النزاعات القائمة مع اليونان وقبرص. قد يشمل هذا كلاً من المطالبات التركية ومطالبات قبرص الشمالية التركية، وهى دولة، بحكم الأمر الواقع، لا تعترف بها إلا أنقرة.
إعادة تشكيل شرق المتوسط
لقد لاحت هذه الفرص فى وقت تبذل فيه أنقرة جهوداً حثيثة؛ لترسيخ مكانة تركيا كمركز رئيسى للطاقة فى المنطقة. وقد برزت هذه الطموحات المتجددة بشكل كامل فى حدث رئيسى للطاقة، نُظم فى مدينة إسطنبول بالشهر الماضى. وقد استضاف المسؤولون الأتراك وزراء البلدان الرئيسية المنتجة للغاز، بما فى ذلك أذربيجان وليبيا وأوزبكستان، إلى جانب ممثلين من دول العبور مثل جورجيا، وكذلك المستوردون من أوروبا الشرقية.
وتتمثل رؤية أنقرة فى أن تعمل تركيا كنقطة عبور رئيسية بين منتجى الغاز وصولاً إلى الشرق والجنوب، والأسواق الغربية. وتوفر البنية الأساسية الحالية للطاقة أساساً جيداً لهذه الطموحات، ويُثبت خط أنابيب الغاز الطبيعى عبر الأناضول، والذى يشكل جزءاً من ممر الغاز الجنوبى الذى ينقل الغاز الأذربيجانى إلى أوروبا، ملاءمة تركيا بالفعل كدولة عبور.
كما تمتلك تركيا سبعة خطوط أنابيب للغاز، وخمس محطات للغاز الطبيعى المسال، وثلاث وحدات تخزين عائمة، ومنشأتين للتخزين تحت الأرض، فضلاً عن قدرة استيراد فائضة كبيرة يمكن استغلالها لتعزيز التجارة.
يخلق قيام دولة سورية جديدة مستقرة فرصة لتركيا للاستفادة من هذه الإمكانات، من خلال إنشاء خط أنابيب للغاز يمتد إلى الغرب عبر سوريا، مع الاتصال بخط أنابيب الغاز العربى. كما يمكن لتركيا أن تقدم لمنتجى الغاز الإقليميين الآخرين طريقاً أكثر جدوى تجارياً إلى الأسواق الأوروبية.
لقد واجه مشروع خط أنابيب «إيست ميد» البارز، والمدعوم من منتدى غاز شرق المتوسط، صعوبة فى تحقيق الجدوى الفنية والمالية، حيث لم يحقق خط الأنابيب المقترح بطول 1900 كيلومتر، والذى يربط إسرائيل وقبرص باليونان، سوى تقدم ضئيل. كما تعرض خط الأنابيب لضربة كبيرة، بعدما سحبت الولايات المتحدة الدعم المقدم له فى عام 2022.
من شأن إنشاء طريق برى عبر سوريا يمتد إلى البنية التحتية الحالية فى تركيا، أن يوفر بديلاً أقصر وأبسط من الناحية الفنية وأكثر فاعلية من حيث التكلفة. وقد يخلق هذا أيضاً فرصة مستقبلية للبنان، الذى بدأ مؤخراً أعمال التنقيب البحرى ويفتقر إلى البنية الأساسية للتصدير الخاصة به. ولبنان ليس عضواً فى منتدى غاز شرق المتوسط، وقد تجد بيروت الطريق التركى جذاباً بشكل خاص؛ إذا أثبتت جهودها فى التنقيب عن الغاز نجاحها.
بالإضافة إلى ذلك، قد يسمح الاستقرار فى سوريا بإحياء مشروع خط الأنابيب الذى ظل مهمشاً، لفترة طويلة؛ ويهدف لربط حقول الغاز الطبيعى القطرية بتركيا عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا. وقد رفض نظام الأسد الخطة. ويقال إنه كان يهدف إلى حماية صادرات الغاز الروسية إلى الأسواق الأوروبية. ولم يستغرق الأمر سوى يومين فقط من سقوط الأسد؛ لكى يُعبر وزير الطاقة التركى ألب أرسلان بيرقدار علناً عن انفتاحه على إعادة النظر فى الخطة.
ما وراء النفط
الجدير بالذكر أن بيرقدار أشار أيضاً إلى اهتمام أنقرة بالتعاون مع سوريا فى إعادة بناء نظام الطاقة، بما يتجاوز الوقود الأحفورى. لقد حققت تركيا نجاحاً كبيراً فى توسيع قدرات شبكة الكهرباء المولدة عبر مصادر الطاقة المتجددة، حيث تم توليد ٤٣٪ من الكهرباء فى البلاد فى عام ٢٠٢٣، من خلال مزيج من طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية؛ مما يتيح تبنى خطة عملية لتطوير نظام الطاقة فى سوريا بعد الحرب.
هذا النموذج ذو أهمية خاصة؛ نظراً لوفرة موارد الطاقة الشمسية فى سوريا، وسط الحاجة الملحة لإعادة بناء قدراتها الكهربائية اللازمة لدعم التنمية الاقتصادية. وسيكون تكامل الشبكة التركية السورية بمثابة عقدة حاسمة فى شبكة الكهرباء الناشئة فى شرق البحر الأبيض المتوسط. وستساعد هذه البنية الأساسية على إدارة تقلبات الطاقة المتجددة، ووضع تركيا كمرساة شمالية لنظام طاقة إقليمى متنامٍ.
تمثل المكونات الأخرى للشبكة (فى شرق المتوسط) بنية ناشئة للطاقة، وهى قادرة على تحويل أمن الطاقة الإقليمى، ودعم تكامل مصادر الطاقة المتجددة. كما بإمكانها أن تعزز التعاون الاقتصادى، وتساعد على الحد من التوترات الجيوسياسية، عبر زيادة الاعتماد المتبادل.
التحديات البنيوية والفرص الاستراتيجية
يطرح الانفتاح الاستراتيجى لتركيا بعد سقوط الأسد فرصاً وخيارات استراتيجية؛ إذ إن بنية الطاقة الإقليمية الناشئة على الرغم من كونها واعدة تواجه تحديات بنيوية وسوقية كبيرة. ولا يزال إنشاء حكومة مستقرة ومعترف بها دولياً فى سوريا غير مؤكد.
إضافة إلى ذلك، سوف ينخفض الطلب الأوروبى على الغاز بعد عام ٢٠٣٠، كما أن الجهات التمويلية الدولية لديها شهية أقل للاستثمار فى البنية الأساسية للوقود الأحفورى. حتى مع البيئة السياسية المواتية فى سوريا، تواجه تركيا قراراً حاسماً، ما إذا كانت ستواصل طموحاتها التقليدية فى مجال الغاز، والتى قد تواجه عوائد متراجعة، أو تسعى لبسط نفوذها من خلال سياسات خطوط الأنابيب التقليدية، أو حتى الاستفادة من هذه اللحظة لوضع نفسها فى قلب جهود تعزيز انتقال الطاقة النظيفة بالمنطقة.
ختاماً، يبدو أن إعطاء الأولوية للطاقة المستدامة على حساب شبكات الغاز التقليدية هو أفضل طريق يمكن لتركيا عبره تحويل ميزتها الاستراتيجية المؤقتة إلى نفوذ إقليمى دائم. بغض النظر عن ذلك، فإن الخيارات التى تتخذها أنقرة فى الأشهر المقبلة؛ ستكون محورية لمستقبلها كمركز إقليمى وللمشهد الطاقى بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله.