جاء المشهد التضامني بجامعة كولومبيا في نيويورك كردّة فعل على مشهد الإبادة الجماعية الجديد للفلسطينيين بقطاع غزة، عبر اكتشاف المقابر الجماعية في مشهد لا أخلاقي جديد ترتكبه عصابات جيش الاحتلال.
وكان لحراك جامعة كولومبيا أن يكون نشاطاً طلابياً عادياً لولا قيام رئيسة الجامعة، ذات الأصول العربية، باستدعاء الشرطة التي اعتقلت عدداً من النشطاء، واتخاذها إجراءات تأديبية بحقهم، عدا القمع الذي جوبه به المشاركون والمشاركات في الحرم الجامعي رغم سلمية الحراك، ما تسبب في انتقاله إلى جامعات أخرى بعدة ولايات ربما هي الأهم في أميركا، معيداً للذاكرة الحالة الاحتجاجية التي نشأت ضد الحرب الأميركية على فيتنام في ستينيات القرن الماضي، التي تتوجت بانكفاء الجيش الأميركي المحتل على أعقابه!
لم يعد بإمكان الاحتلال وقف الحالة الشعبية الناهضة ضد جريمة الإبادة في غزة، ولم يعد ممكناً الاستفراد بغزة بعد مرور أكثر من مئتي يوم على المعاناة المفتوحة على الجحيم، جراء انقلاب ساعة الرمل بعد مرور مائتي يوم على هجوم «طوفان الأقصى»، فالانتفاضة الطلابية تحدث في أهم جامعات الولايات المتحدة بما فيها تلك الجامعات التي تستقطب النخب الطبقية والأكاديمية وتخرج قادة سياسيين، ومبادرتها إلى نصب الخيام في حرم الجامعات متمثلةً خيام غزة، والهدف إطلاق رسالتها التضامنية ومطالبها ودفوعاتها عن الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة، معلنة موقفاً مناوئاً للسياسة الأميركية المنحازة سياسياً للاحتلال عدا تمويلها مادياً، رافضة التهم المحنَّطة عن معاداة الساميّة لكل من ينتقد سياسة إسرائيل العنصرية وسط أجواء عدائية تزيد من عزلة الاحتلال وتعريته وكشف حقيقته العدوانية.
والملفت أن انتفاضة المجتمع الأكاديمي في الولايات المتحدة الأميركية غير مسبوقة بالنسبة لفلسطين، تجسدت في مطالبتها اقتصادياً وأكاديمياً بسحب استثمارات الجامعة من دولة الإبادة الجماعية، بل أكثر من ذلك، طالبت بفصل المؤسسات التعليمية عن شركات إسرائيلية تعمل في مجال صنع الأسلحة أو في الجهود العسكرية بقطاع غزة، غير مكترثة بذريعة معاداة السامية فور توجيه الانتقادات لإسرائيل التي فقدت مصداقيتها، حتى من قبل اليهود أنفسهم في أميركا المشاركين بحيوية في حملات الاحتجاج على تواصل حرب الإبادة والمطالبة بوقف إطلاق النار، بل كانوا أول من بادر إلى إسقاط الأقنعة التي تخفي وجه الاحتلال الذي يمارس جريمة الإبادة والتطهير العرقي باسم اليهود، مطلقين عبارتهم الشهيرة: «ليس باسمِنا».
سرعان ما امتد لهيب انتفاضة كولومبيا إلى عدد آخر من الجامعات الأميركية الرئيسة، كما أن أثرها وصخبها وصلا إلى جامعات بريطانيا التي تنتظم فيها التظاهرات الحاشدة بمشاركة مجتمعية، وإلى فرنسا التي تمتلك حركة طلابية نشطة وفاعلة، وإلى جامعة سيدني في أستراليا وجامعة إسطنبول في تركيا، وهو ما يُبشر بانتشار العدوى واختراقها الحدود لممارسة الضغط على الحكومات، وهذا من شأنه صناعة الفرق.
وليس مستغرباً أن الربيع الطلابي في أميركا قد أثار ردود فعل إسرائيلية مضادة ذات طبيعة عنصرية، تجلت في ردود فعل قادتها السياسيين، كما تجلى حين بادر رؤساء الجامعات والأبحاث إلى التعبير عن استعدادهم لاستيعاب العلماء والطلبة اليهود في جامعات إسرائيل، مؤكدة على نهجها في وضع نفسها في موقع الضحية المستهدف وجودها، في خطوة ترسخ فكرة معاداة الساميّة.
ليس من المؤكد بعد أن تتحقق أهداف الانتفاضة الطلابية الضاغطة على السياسة الخارجية لأميركا في المدى المباشر، لأن الطبقة السياسية الأميركية لا تزال تسير على ذات المنهج المعادي لشعبنا، وهناك العديد من المؤشرات ابتداء بالرئيس بايدن الذي يدعم حرب الإبادة حتى النهاية ويشتري بضاعة معاداة السامية المهترئة، فانحيازه المطلق واضح للعيان بعيداً عن بعض التصريحات والملاحظات التي يبديها بين حين وآخر لذرّ الرماد في العيون عن انحيازه، بل إنه سريعاً يتراجع عنها مثل قيامه بالعدول عن قراره وقف تمويل كتيبة «نيتسح يهودا» التي ترتكب جرائم حرب موثقة أو إشهارها «الفيتو» في وجه أي قرار لصالح الشعب الفلسطيني، وآخرها التصويت ضد منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.. أو إقرار حزمة ضخمة من المساعدات العسكرية بمبلغ 26 مليار دولار بجرة قلم منه.
ولا جدال بالقول إن القمع البوليسي للتظاهرات الطلابية لن يجدي نفعاً مع حركة الاحتجاج الطلابية، وترهيب الطلبة وتهديدهم بالفصل بناء على تهديد الممولين بقطع المساعدات عن الجامعات المنتفضة الذي يفاقم الأزمة، بل وضعها في تحديات تحمل مُثُلاً وأبعاداً قيمية وأخلاقية مضمونة في قوانين الجامعات الأميركية كحرية الرأي والتعبير والحرية الأكاديمية، وهنا أيضاً تنطبق سياسة ازدواجية المعايير في التعامل مع القيم الأصيلة في أميركا، فحرية التعبير مُصانة ويمكن تصنيفها بسهولة إلا حين يتعلق الأمر بالتضامن مع غزة والشعب الفلسطيني عموماً، حيث تتدخل المصالح السياسية أو المالية في الفرز وفي طريقة التعامل مع حراك الطلبة، خاصة حين يكون الحراك سلمياً.
ومن الجدير ذكره أن مظاهر التغيير في الوسط الشبابي بأميركا بدأت إرهاصاتها مع حرب الإبادة في غزة، وتتضح تدريجياً تجلياتها المناهضة للحرب كلما تطورت المعرفة الحقيقية والعميقة بالقضية الفلسطينية، وتتغير إيجابياً ضد الانحياز الأميركي المطلق، وهو ما تحقق على أيدي الشباب المتحرر من ذاكرة الهولوكوست، وتعمق وعيهم بأسباب وجذور الصراع، وكذلك بسبب انتهاك إسرائيل جميع القواعد الإنسانية في الحرب.
انتفاضة الجامعات الأميركية حدث مهم وتاريخي لأنه يؤشر على انقلاب في حالة الوعي لدى قطاع الشباب الأميركي والغربي عموماً على الرواية الصهيونية في أميركا وغيرها، وسيترك أثراً على سياسات النخب ربما في المديات المتوسطة والبعيدة المؤيدة لدولة الاحتلال في السراء والضراء.
والسؤال المطروح في ضوء انتفاضة الجامعات الأميركية: أين الجامعات العربية من هذه الانتفاضة؟ وأين المجتمع الأكاديمي الفلسطيني، خصوصاً الكتل الطلابية وأساتذة الجامعات؟ لماذا يصمتون صمت القبور وكأن الأمر لا يعنينهم بشيء.. بينما يقتضي الواجب إصدار المواقف المساندة والإعلامية؟ وهل هناك ما هو أهم وأسمى من رسالة الجامعات الأميركية والأوروبية التضامنية بعمقها وبعدها الإنساني ومضمونها السياسي؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها عن دور الحركات الطلابية والهيئات التدريسية في الجامعات الفلسطينية ليس منذ انتفاضة جامعات أميركا، بل منذ حرب الإبادة على غزة وتدمير الجامعات والمدارس من جيش الاحتلال، وتدمير العملية التعليمية لأكثر من نصف مليون طالب فلسطيني في المدارس والجامعات هناك، عدا سياسة الحواجز في الضفة الفلسطينية وأثرها السلبي على التعليم وانتظامه