مع تواصل العدوان الإسرائيلي على لبنان لنحو الشهر، وتوسّع رقعة غاراته الجويّة على مناطق واسعة في الجنوب والعاصمة بيروت، ارتفع عدد النازحين/ات لأكثر من مليون وأربعمئة ألف هرباً من القصف والموت. سوريا كانت وجهة أكثر من 400 ألف منهم، ثلثاهم من السوريين/ات. علماً أن الغارات الإسرائيلية المستمرة قتلت، حتى 20 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، ما لا يقل عن 2464 شخصاً وأصابت 11530 آخرين، العشرات منهم من السوريين/ات.
خيار “العودة” من لبنان إلى سوريا، البلد الذي خرج منه هؤلاء السوريون قبل سنوات أيضاً هرباً من القصف والموت والاعتقال وغيرها من المخاطر الأمنية، لم يكن سهلاً لمعظمهم، لكن “الأبواب أغلقت في وجوههم” كما يقولون لرصيف22، ولم يعد لديهم حل سوى إلقاء أنفسهم للمجهول مرة أخرى حيث عبّر عدداً منهم عن أنهم “ضائعون ولا نعلم ماذا ينتظرنا”.
“لم يبقَ لنا خيار آخر”
في منزل صغير في إحدى ضواحي دمشق الشرقية، التقى رصيف22 السيدة بتول، التي فضّلت رواية قصتها باستخدام اسم مستعار لاعتبارات السلامة الشخصية. خرجت بتول (45 عاماً) مع ولديها من سوريا عام 2014، بعد وفاة زوجها إثر القصف على منزلهم في غوطة دمشق الشرقية. عاشت العائلة في إحدى قرى البقاع، معتمدة على بعض المساعدات والأعمال البسيطة التي حاولت القيام بها في المنزل الذي استأجرته قرب بعض أفراد العائلة النازحين هناك أيضاً من سوريا.
“كانت عشر سنوات صعبة للغاية. لم نكن سعيدين على الإطلاق، وواجهنا الكثير من التحديات والتمييز في المعاملة، لكن لم يكن لدينا مكان آخر نلجأ إليه، فمنزلنا في سوريا مدمر بالكامل، ولا معيل لدي سواء هناك أو هنا. اعتقدت أن الحياة في لبنان على الأقل ستكون أكثر أمناً، خاصة أن ولديّ أصيبا بتبعات نفسية خطيرة نتيجة أصوات القصف والطيران التي عايشناها في سوريا على مدار عامين”، تقول بتول.
مع بداية التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان، لم تعتقد بتول بأنها ستفكر بالمغادرة. “كلهم يومين وبيمضوا”، كانت تحدّث نفسها. لكن اقتراب الغارات من منطقة سكنها جعلها تأخذ القرار بسرعة. “ما كان عندي استعداد نرجع نعيش نفس التجربة اللي عشناها بسوريا. شفت أولادي (ابنة عمرها 15 عاماً وولد عمره 17 عاماً) كيف صاروا يرتعبوا من صوت الطيران والضرب”.
ومن العوامل التي دفعت بتول أيضاً لاتخاذ القرار، الصعوبات الهائلة التي بات السوريون يواجهونها في لبنان مع إغلاق الكثير من الأبواب في وجوههم، فعدد كبير من مراكز الإيواء التي افتتحت في لبنان ترفض استقبالهم، وهناك أصحاب بيوت باتوا يفضّلون إخراج السوريين وتأجير عائلات لبنانية عوضاً عنهم على اعتبار أنها قادرة على دفع مبالغ أعلى كبدلات إيجار.
حزمت بتول أغراض العائلة القليلة، سلّمت المنزل المستأجر في البقاع لأصحابه، وقرّرت التوجه نحو منزل أقربائها في غوطة دمشق الشرقية، بعد أن شجعوها على العودة.
“كانت لديّ حينها الكثير من المخاوف. ماذا ينتظرني في سوريا؟ كيف سنعيش ونؤمن احتياجاتنا الأساسية؟ هل سيتأقلم أولادي مع الحياة هناك؟ والأهم هل يمكن أن يحصل لنا أي حدث أمني خاصة عند عبور الحدود؟” تضيف بتول، مردفةً بأن عاملاً حاسماً بالنسبة إليها في اتخاذ قرار العودة كان متعلقاً بكون ابنها وحيداً وبالتالي معفىً من الخدمة العسكرية. “لولا ذلك لكان من المستحيل أن أفكر في العودة إلى هذه البقعة الجغرافية، وأعرف عائلات سورية كثيرة في المنطقة التي كنت أسكن فيها، امتنعت عن الرجوع إلى سوريا بسبب التخوّف من موضوع الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، أو عاد نساؤها وأطفالها دون الذكور، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور”، تتابع.
وقد سجّلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدة حالات اعتقال لسوريين عائدين من لبنان، على نقاط تفتيش مختلفة تابعة للقوات الحكومية خلال الأسابيع الفائتة. أما بالنسبة لمن هم في سن الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، ووفق شهادات حصل عليها رصيف22، يتم إخطارهم رسمياً بـ”تكليفهم بالخدمة” عند عبورهم النقاط الحدودية الرسمية، وإعطاؤهم مهلاً لا تتجاوز الأسبوعين للالتحاق بقطعهم العسكرية.
رافق الخوف بتول وأولادها حتّى وصولهم إلى وجهتهم في ريف دمشق، بما في ذلك الخوف من أصوات القصف والطيران التي لاحقتهم في الجزء الأول من رحلتهم، أو الخوف من عبور نقطة الحدود والتفتيش الأمني. “لحسن الحظ سارت الأمور على ما يرام، ووصلنا وجهتنا بخير وسلامة”.
دفعت السيدة 250 دولاراً أجرة للسيارة التي نقلتها مع أولادها وحاجياتهم الأساسية، وقد جاؤوا قبل نحو أسبوعين عبر معبر العريضة في محافظة حمص. وتربط لبنان وسوريا ستة معابر حدودية نظامية، أكبرها وأهمها هو معبر جديدة يابوس/ المصنع، وقد تعرّض للقصف الإسرائيلي من الجهة اللبنانية نهاية الشهر الفائت، فبات العبور منه صعباً للغاية ومحفوفاً بالمخاطر بعد دمار جزء من الطريق الإسفلتي بين البلدين، ودفع ذلك كثيراً من النازحين لاختيار معابر أخرى من جهة محافظتي حمص وطرطوس رغم أنها تستغرق وقتاً أطول وتتطلب تكلفة أعلى خاصة بالنسبة للقادمين إلى دمشق وجنوب البلاد.