لعل من الخطب الملم، والبلاء الذي ليس فوقه بلاء، واقع الشباب الذي نشفق عليه، ونتمنى له النجاة، فهذه المهج الغضة التي تتأرجح بين اليأس والرجاء، والأمل والقنوط، في غدٍ يرفع عنهم أغلال البطالة، ويدفع عنهم مذلة الحرمان، يتغلل في حناياها شعور بأنها بائسة تعسة، فهي لا تجد ما تنفق، ولا تنال ما تتمنى، فهذه الطائفة التي يرثي لها قوم، ويسخر منها قوم آخرين، ما يزيد معاناتها لذعاً، وآلامها مرارة، أنها أسرفت في الإلحاح، وأطنبت في الالحاف، عساها تجد من يعصم أرواحها المنهكة من الضعف، وعزائمها الفاترة من الخمود، لقد رسمت هذه الناجمة خطة قبل الحرب وبعدها، ومضت في تحقيقها، ولم تكن تعلم أن خطتها محفوفة بالأذى، محاطة بالخطر، فهي بعد أن تسلحت بالعلم، وتخرجت من أروقة الجامعات، كانت تعتقد أنها سوف تناضل النضال الذي يليق بالرجال، وأن على عاتقها فقط تجثم الأعباء الثقال، ولم يدرِ في خلدها أن الوظيفة سوف تنازلها هكذا متحدية متصدية، لقد كلفتها هذه الشقية حركة ونشاطاً، وسعياً واضطراباً، إلى مرافق ودواوين الدولة دون غناء، أما خطب الساسة ووعودهم التي تدعوها إلى التعلل بالآمال، والتعلق بالخيال، فلا تنخلع لها قلوب، أو تبتهج لها نفوس، لأن مسامعها اعتادت على هذه الأصداء التي قهرتم على كظم الحس، وكتمان الشعور.
لقد فكرت جموع الشباب وقدرت، ثم بحثت ونقبت، ونثرت كنانتها كما يقول من أرسى دعائم الملك لبني أمية الحجاج الثقفي، فاختاروا من سهامها أمضاها وأنفذها وأكثرها فتكاً بالوطن وهي الهجرة عنه، بعد أن أعجزتها الظروف عن النهوض بجلائل الأعمال تكرمة له، ولكن نوائب الزمن التي سلطت عليهم من كل ناحية، وأخذت عليهم كل سبيل، هي التي حدت بهم لاتخاذ مثل هذا القرار الذي يدفع السودان تبعته، وليس من الحيف في شيء أن يسأل كل حادب على الوطن هذا السؤال، وعلى سادتنا أن يجيبوا عن هذا السؤال في صراحة ووضوح، لماذا يتهافت نواطير الشباب على الهجرة بعد أن أرضوا أنفسهم من العلم والتحصيل؟ ولماذا ذهبت عبثاً تلك الجهود الجبارة التي بذلتها أسر تلك الجموع حتى يظفروا بعد سنوات الطلب بتلك المناصب التي تكفل لهم ولغيرهم الحياة الهانئة المطمئنة؟ وهل يعتقد من يتكأكون حول السلطة أن السكون سيتحول إلى حركة، والجمود إلى نشاط، بعد أن تطوي هذه الفئة لجج الاغتراب؟ ولماذا لم يلتفت المؤتمر الوطني والحكومات المستنسخة منه لهذه القضية التي ينبغي أن تكون في قمة أولوياته، لماذا لم يحفل بها؟
السؤال الساذج الذي أجد نفسي مضطراً لطرحه الآن ونحن في أتون هذه الهيجاء، من الذي عصمنا من بأس العدى وبطشهم بعد أن دارت رحى هذه الحرب، واشتدت نائرتها؟ إنَّ الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن شبابنا لم يحزم أمتعته بحثاً عن المغريات، وسعياً لحصد النزوات، ولكن لأنه فقير معدم، ويأبى أن يرى عائلته التي أنفقت كل درهم ودانق من أجل تعليمه فقيرة معدمة، لم ترتضِ هذه الثلة أن تكابد صروف الجهد، وألوان العناء، في ديار الغربة إلا بعد أن جرفتها الفاقة، وكدر العيش، وموت الآمال.
إنَّ من خطل الرأي، وقبح التأويل، أن نرمي شبابنا بكل سوءة شنعاء، ومعرة دهماء، وحسبنا أننا قد أضعنا على بلادنا أحلاماً جزلة، وسواعد فتية، وهمماً لا تطاول، ما أتمناه أن يتخذ أرباب الحكم والتشريع خططاً محكمة تستأصل أسباب هذه الهجرة، وتمحق دواعي هذا الاغتراب، فلا شك ولا ريب أن الشعوب تعول على شبابها في الذود عن حياضها، وتنمية وتطوير مقدراتها.