لم يكن مجرد دبلوماسي عربي عادي في الأمم المتحدة، كلفته بلاده بتمثيلها في قاعات المنظمة الدولية الجديدة على العالم، وكذلك لم يكن السياسي المعروف في بلد كان يموج بحالة فوضى سياسية لا تختلف مطلقًا عن تلك التي يعيشها الآن، وبالقطع كان مفكرًا وفيلسوفًا فريدًا في العالم العربي آنذاك، يختلف في آرائه ومواقفه، يؤمن بالفكر وضرورته في التخطيط لمستقبل أفضل، والإنسان في قناعته هو المورد الأهم.
في قلب بيروت وُضع نصب تذكاري لتخليد ذكرى الرجل، الذي لا تكون ذكراه أبًدًا مرتبطة بيومي المولد والرحيل كأي إنسان آخر، لأن اسمه ارتبط بيوم آخر لا يرتبط به وحده، ولكن يرتبط بكل إنسان عاش وسيعيش في هذا العالم بعد تاريخ العاشر من ديسمبر عام 1948؛ يوم تبني الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة، والذي كان “اللبناني شارل مالك” صاحب الجهد العربي الوحيد فيه.
ميثاق الأمم المتحدة، الذي أنتج بعد الحرب أظهر قصورًا باعتماده على الحريات الأربع، التي أقرها المنتصرون في الحرب، لتظهر الحاجة إلى إعلان عالمي، لتأخذ الأمم المتحدة خطوات نحو صياغة هذا الإعلان في فبراير 1947، من خلال لجنة مؤلفة من إليانور روزفلت، وبين تشون تشانغ، وتشارل مالك في صياغة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ورغم أن “روزفلت” كانت بمثابة المحرك لعمل المجموعة، كان “مالك” صاحب جهد خاص، ومقررًا لها، كما كتب أيضاً المادة 18 الحاسمة بشأن الحرية الدينية وحرية الضمير.
كما قدم “مالك” مساهمات جوهرية في عدد من المواد، بما في ذلك المادة 16 بشأن الأسرة، كما كان صاحب دعوة قوية إلى صياغة دقيقة لأجزاء الإعلان، التي ركزت على الظروف المادية والاقتصادية والاجتماعية للإنسان، وبالقطع كان “شارل” صاحب رؤية متكاملة حول حقوق الإنسان، فقبل 3 سنوات من بدء العمل على هذا الميثاق، كانت قد تكونت رؤيته الخاصة، التي آمن من خلالها أن الإنسان يجب أن يبقى حرًا في التفكير، وحرًا في الاختيار، وحرًا في التمرد على مجتمعه، أو حتى على العالم كله، إذا كان على خطأ.
وعمل “مالك” في مراحل إقرار الإعلان المختلفة حتى صدقت الجمعية العامة في 10 ديسمبر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليصبح هذا التاريخ هو يوم حقوق الإنسان الذي يتذكر العالم فيه الحاجة إلى ضرورة العمل على ترسيخ المبادئ التي وضعها “مالك” ورفاقه، وتعزيزها في مختلف أنحاء العالم.
اقرأ أيضا.. من التعديلات القانونية إلى التوعية المجتمعية.. كيف تتحسن أوضاع حقوق الإنسان عربياً في 2025؟
ولد شارل حبيب مالك في 11 فبراير 1906 في بلدة بطرام الصغيرة في قضاء صاحب طابع أرثوذكسي في شمال لبنان، لوالد طبيب، وليكون ترتيبه الثاني بين أشقائه الستة، ويتلقى تعليمًا دينيًا في طفولته، حتى الالتحاق بمراحل التعليم في مدرسة طرابلس، حتى نال درجة البكالوريوس في الرياضيات والفيزياء عام 1927 من الجامعة الأمريكية في بيروت.
كانت القاهرة المحطة الخارجية الأولى لشارل مالك عندما انتقل إليها مع أسرته في 1929، حيث أسس والده عيادة طبية ليمضي فيها سنوات، وبينما كان في مصر يعمل ضمن جهود بحثية ممولة دوليًا، بدأ “شارل” في مراسلة عدد من الفلاسفة العالميين من بينهم “برتراند راسل وألفريد نورث وايتهيد”، مستفسرًا عن إمكانيات دراسة الفلسفة تحت إشرافهما.
ونتيجة لذلك، وجد “شارل” نفسه في عام 1932 في جامعة هارفارد يدرس الفلسفة تحت إشراف “وايتهيد”، ويستفيد من منحة دراسية حصل عليها.
وبينما تصاعدت النازية في ألمانيا، وجد “شارل” الذي كان هناك دارسًا ومشاركًا في نشاطات جامعة “فرايبورغ” نفسه في مأزق، وفي بيئة لا تناسبه، ليغادر ليكمل الدكتوراه في عام 1937 حول ميتافيزيقيا الزمن في فلسفتي “وايتهايد وهايدجر”، ومن بعدها يعود إلى وطنه لبنان، حيث درَّس الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأسس قسم الفلسفة وبرنامج دراسات الحضارة هناك.
وقع على “مالك” الاختيار لتمثيل بلاده في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في عام 1945، وكذلك ليشغل منصب أول سفير للبنان لدى الولايات المتحدة، وبعد بعض التردد والمداولات المكثفة مع أصدقائه وزوجته، وافق “تشارلز” على ترك الحياة الأكاديمية مؤقتًا ودخول عالم الدبلوماسية الدولية.
وحقق “شارل” رحلة دبلوماسية فريدة، حيث رأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي في عام 1948، وأصبح رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عامي 1953 و1954، ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في عامي 1958 و1959.
ومن موقع الدبلوماسي إلى موقع السياسي اللبناني وجد “شارل” نفسه مرة أخرى في لبنان، ليتولى وزارتين على الترتيب هما “التعليم والخارجية”، ومع حلول عام 1960، عاد إلى النشاط الأكاديمي كأستاذ زائر في كلية “دارتموث” في هانوفر، كما عمل أستاذًا زائرًا في الجامعة الأمريكية في واشنطن في عامي 1961 و1962.
وأمضى “شارل” سنوات من الستينيات وأوائل السبعينيات كأستاذ متميز للفلسفة، وعميد الدراسات العليا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي تلك الفترة الزمنية ساعد على تأسيس الجبهة من أجل الحرية والإنسان في لبنان.
أمضى “مالك” سنوات الثمانينيات في الولايات المتحدة، وهناك كتب “تقول ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إنه مثال للتحقيق… لكل الشعوب ولكل الأمم… بصفته هذه هو أيضاً مثال للقياس. إنه يقيس مكانة الإنسان ودرجة الحرية التي أنجزها شعب ما أو أمة ما”.
وتعددت المواقف التي كشف فيها “مالك” اختلافًا واضحًا في طريقة تفكيره أرّخ لها الكاتب أحمد عدنان، فعلى حد ما ذكر كان مالك يقول منذ عام 1949 إن وزن العرب في أمريكا لا شيء بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، لذلك حين تتصادم المصلحة الإسرائيلية مع المصلحة العربية ستقدم الولايات المتحدة المصلحة الإسرائيلية.
ويذكرنا بنصيحة مالك ألا نغتر بمواردنا الطبيعية وموقعنا الاستراتيجي، لأنهما من العوامل التي يمكن التغلب عليها، فالرهان فقط على الإنسان ولن يكون للعرب وزن إلا إذا أصبح الإنسان العربي مؤهلاً لأن تستشيره الحكومات الغربية في الصناعة ومختلف العلوم، وأن يصبح نتاج المفكر العربي والعالم العربي موضوع تدريس في جامعات الغرب، وفي ذلك الوقت تنبّه مالك إلى أهمية الدعاية والإعلام، مع أنه لم يرَ مطلقاً ثورة الاتصالات الراهنة.