مع تنصيب القادم الجديد القديم في البيت الأبيض الرئيس السابع والأربعين دونالد ترامب، ومع متابعة أداء أركان إدارته الجديدة في الأيام التي سبقت يوم التنصيب؛ تتضارب التكهنات حول مصير الملفات العالمية الرئيسية، وكيفية تعامل الرئيس ترامب وإدارته معها. ومرد هذا التضارب هو شخصية ترامب الجدلية المثيرة للتساؤل والمفاجآت، إضافةً إلى تشكيلة إدارته الغريبة العجيبة، ذات الأيديولوجية المحددة التي في معظمها انحياز «لإسرائيل»، سواء وزير دفاعه أو مستشاره للأمن القومي أو وزير خارجيته، أو حتى سفير بلاده لدى دولة الكيان، وكذلك دور بعض الوزراء والمبعوثين الشخصيين الأثرياء من حوله. والسؤال هنا هل يذهب العالم إلى مزيدٍ من الحروب والاضطرابات والقلاقل؟ أم أن هناك – كما وعد الرئيس ترامب «سننهي كل الحروب في العالم» وحل النزاعات والصراعات، التي تتناقض في واقع الأمر مع رؤيته وسياسته الباحثة عن الاستقرار، بهدف الاستثمار وملء جيوب الشركات والخزينة الأمريكية؟
لقد ترك الرئيس جو بايدن بلاداً تعاني من أزمات اقتصادية عديدة، ونسبة تضخم، هي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ تراجع النمو الاقتصادي من 5.8% في عهد ترامب إلى 2.1% في عهد بايدن، وارتفع الدين العام إلى 34 تريليون دولار إبان عهد بايدن، بعدما كان في عهد ترامب 28.21 تريليون دولار. كما ترك بلاداً تعاني انقساما داخليا مجتمعيا بين حزبين وتيارين، وكأنهما في بلدين تجمعهما جغرافية واحدة وجنسية واحدة؛ وهذا ما بدا جلياً في خطاب التنصيب، خاصة عندما أشار إلى عزمه إلغاء الكثير من القرارات المتعلقة بالجانب الاقتصادي التي اتخذها بايدن قائلاً «إن العهد الذهبي للولايات المتحدة قد بدأ الآن»، وإنه سيعد أمريكا عظيمةً ثانيةً؛ وكأنه بذلك يشير بسلبية إلى عهد بايدن، وأنه سبب هذا الانهيار والانحدار. وخلّف أيضاً تركةً ثقيلةً من النزاعات والصراعات والحروب، سواء في الشرق الأوسط لاسيما في موقفه من الحرب على غزة، أو في افريقيا أو بتأزيم الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
بناءً على ما سبق، يرى ترامب في اليسار الراديكالي شراً مطلقاً، ويجب مواجهته بكل السبل، لذلك يريد فرض أجندته ونهجه السياسي داخلياً وخارجياً، فيضرب يميناً ويساراً، فيهدد دولة بنما للاستيلاء على قناتها، واعتبارها ملكاً للأمريكيين، وتارة أخرى يهدد كندا بفرض رسوم جمركية إضافية عليها، أو ضمها لتصبح الولاية 51 للولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك يهدد الدنمارك للسيطرة على جزيرة غرينلاند. ويصفق له أعضاء الكونغرس عندما يعلن عزمه إعادة تسمية خليج المكسيك بالخليج الأمريكي. وهناك في آسيا، يثير القلاقل مع الصين، لمنعها من تحقيق التفوق الاقتصادي وسيطرتها على الأسواق العالمية. وأيضاً لا ينسى أوروبا من محاولات إخضاعها، خاصة أنها المنافس الحقيقي، علميا وأكاديميا وتقنيا للولايات المتحدة. ويتوعد الشرق الأوسط بجحيمٍ، إذا لم تُحل قضية الرهائن الإسرائيليين. والسؤال هنا هل سيحقق ترامب أهداف سياساته ونهجه؟ أم أنه سيصطدم بمواقف عديدة اقتصادية وسياسية وتقنية؟ وهل نحن أمام أربع سنوات هي الأكثر خطورة في تاريخ البشرية المعاصر؟ أم نحن نسير باتجاه النعيم الذي وعد به ناخبيه؟
إقرأ أيضا : هل سيترشح أردوغان لفترة رئاسية ثالثة
في ملف الشرق الأوسط، إن إطلاق ترامب لتهديداته كان لها الأثر البالغ لإرغام نتنياهو للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي دخل حيّز التنفيذ في 19 يناير الحالي، وقبل يوم واحد من تسلم ترامب لمنصبه؛ ما يعني قدرته على فرض أجندته على قادة الكيان، حيث قال «إن الجحيم سيندلع في الشرق الأوسط» إذا لم يتم الإفراج عن الرهائن قبل تنصيبه في البيت الأبيض رئيساً؛ وكان له ما هدف إليه، وكأنه في ذلك يريد إغلاق ملف الشرق الأوسط من بابه الأكثر سخونةً وخطورة وهو الحرب في غزة؛ مُذكّراً بالتحالف بين الإنجيلية المسيحية والمتطرفين المتدينين اليهود. كما يرى في إيقاف الحرب إسكاتاً لجبهة اليمن المشتعلة، التي تشترط إيقاف إطلاق النار في غزة لتكف عن إطلاق صواريخها ومسيراتها، لضرب أهدافٍ في العمق الإسرائيلي، وبالتالي لضمان أمن وسلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر وكذلك ضمان أمن دول الخليج و»إسرائيل». وفي الوقت ذاته هي رسالة تهديد إلى إيران باعتبارها من وجهة نظر ترامب، السبب في كل القلاقل والمشكلات في الشرق الأوسط، وهو الذي انسحب من الاتفاق النووي معها. وهذه الرسالة الأخيرة تتماهى مع مصالح «إسرائيل» ونواياها الرامية إلى إسقاط النظام الإيراني، أو تقليص وتقويض نفوذه ودوره في المنطقة، وضرب مشروعه النووي، خاصةً بعد سقوط نظام بشار الأسد وإضعاف قدرات حزب الله في لبنان.
إن أحد فصول ملف الشرق الأوسط هو، إعادة استئناف صفقة القرن والاتفاقات الإبراهيمية، التي تتضمن التطبيع مع السعودية، وربما بلدان أخرى وأيضا ضم «إسرائيل» للمستوطنات في الضفة الغربية إليها وبسط السيادة الإسرائيلية عليها بصفتها جزءا من دولة «إسرائيل»، وهذا ما صرح به في وقت سابق سفير ترامب الجديد لدى تل أبيب «بأن هذه هي أرض يهودا والسامرة، وليس هناك ما يسمى بالضفة، وأن المستوطنات هي بلدات ومدن إسرائيلية». وهذا ما يعبر عنه دوماً سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيغلق ملف الشرق الأوسط وفصل القضية الفلسطينية بهذا الشكل وعند هذا الحد دون حل؟ لاسيما أن كل الطروحات سواء الأمريكية الترامبية أو الإسرائيلية، تؤكد رفض حل الدولتين وعدم تبني أية مبادرة تفضي إلى حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه في أرضه ووطنه، وأن هدف سياستهم هو الاستيلاء على كل فلسطين، وليس فقط الضفة وغزة، خصوصاً بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لدولة الكيان، وتعاطفه معها لأن مساحتها صغيرة.
من نافل القول، إن من يريد إنهاء الحروب في العالم، ويتجه لتعافي بلاده اقتصادياً ويضع بلاده أولاً؛ عليه التخلي عن نهج القوة الرادعة العقابية، التي سادت في عهده الأول وهي استخدام القوة غير المباشرة وتنوع أساليبها، بين وسائل الإكراه العسكرية والاقتصادية، كما هو الحال مع إيران، ومهادنة الحلفاء أحيانا، والضغط عليهم أحيانا أخرى، وهذا ما ظهر جلياً في تعامله مع قادة أوروبا عندما طالبهم برفع إسهاماتهم المالية لحلف الناتو، ورغبته الحالية بفرض رسوم على جميع المنتجات الأجنبية. كما يتطلب منه التخلي عن النبرة الاستعمارية الإمبريالية التي ظهرت في مواقفه قبل وبعد التنصيب، وتبني سياسة عالمية متوازنة تقوم على أساس احترام سيادة الدول والشعوب وصون مصالحها، وفق القوانين والمواثيق والأعراف الدولية. أما في ملف الشرق الأوسط، فإن المتوقع من ترامب وإدارته نظرة واقعية منطقية عادلة تجاه القضية الفلسطينية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وفق قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وحقوق دول المنطقة للعيش بأمنٍ واستقرار وسلام دائم. إن استمرار الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير، والانحياز الكامل والدعم اللا مشروط لدولة الكيان هي العامل الأهم والرئيسي في اشتعال المنطقة وتهديد السلم العالمي. ختاما، هل سيدشن الرئيس ترامب عهده الجديد كرئيس استثمار وصفقات اقتصادية، تتجه بالمنطقة والعالم نحو الاستقرار والازدهار والسلام العادل وإنهاء الحروب، كما وعد؟ أم أنه سيعيد ما كرره الرؤساء الأمريكيون السابقون، خاصة سلفه بايدن من تصعيد للتوترات والصراعات وتأزيم الأوضاع والانحياز للعدوان، والتنصل من بعض الملفات لنصل بالنتيجة إلى حرب عالمية ثالثة تحصد البشر والشجر والحجر؟ أم تنكفئ الأمور إلى شن حرب تجارية وتكنولوجية تكون أوروبا طرفاً أساسياً فيها؟