السودان

سياسات جنوب السودان الإقليمية.. وعلاقتها بتأجيل الانتخابات؟

كان جنوب السودان من أكثر الدول المعنية بالأزمة في جاره الشمالي، وسعيًا لوقف الحرب بين أطرافها؛ لاعتبارات عدة، من بينها التداعيات الخطيرة لأيّ اضطرابات أمنية في السودان على مصالح جنوب السودان المجتمعية والاقتصادية

كان قرار حكومة جنوب السودان الانتقالية، في منتصف سبتمبر 2024م، تأجيل الانتخابات الوطنية -التي كانت من المقرر إجراؤها في نهاية العام الحالي-، مباغتًا لأطراف عدة، لا سيما الأطراف الدولية الضامنة لعملية السلام في البلاد.

وجاء القرار ضمن إعلان الرئيس سلفا كير (13 سبتمبر الماضي) تمديد ولاية حكومته الانتقالية لمدة عامين آخرين، ومِن ثَم تأجيل الانتخابات للمرة الثانية بعد التأجيل السابق في العام 2022م. وعنى قرار “كير” استمرار العمل باتفاق السلام الذي وقَّعته الأطراف المتنازعة في البلاد في العام 2018م بعد نحو خمسة أعوام من الصراع المسلح الذي قاد إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى وقتها([1]).

وارتبط بهذا التغيير التأثير في مجمل سياسات جنوب السودان الإقليمية، ومحاولة مواءمتها مع مخاوف شركاء جنوب السودان الدوليين، مثل الولايات المتحدة والنرويج والاتحاد الأوروبي وكندا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول الضامنة لعملية السلام في البلاد منذ إعلان استقلالها في العام 2011م، وهي الدول التي أعلنت في بيان مشترك أن قرار “سلفا كير” يعكس “فشل الحكومة الانتقالية في تطبيق اتفاق سلام 2018م؛ رغم الوعود التي قطعتها مع إعلان “خريطة الطريق” (التنصيص في أصل البيان المشترك المعلَن في 18 سبتمبر) في العام 2022م”؛ مما قد يُحيل إلى فرضية مُهمة؛ ألا وهي ارتباط سياسات جنوب السودان الإقليمية في الوقت الراهن بمصالح آنية تتجاوز الرؤى الإستراتيجية لـ”جوبا” في السنوات السابقة؛ مثل: ما يتعلق بالعلاقات مع مصر والسودان، والتماهي المتزايد مع سياسات إثيوبيا.

اقرأ أيضا.. الحوكمة في السودان ونشوب حرب أبريل

اتجهت “جوبا” في الشهور الأخيرة إلى ربط سياساتها الإقليمية على نحو وثيق مع سياسات إثيوبيا، وتعميق مزيد من التقارب معها في مسارات العمل الإقليمي في دوائرهما المشتركة؛ ويمكن تلمُّس ذلك في خطوتين مهمتين؛ أولهما تصديق برلمان جنوب السودان (أو الجمعية التشريعية الوطنية الانتقالية) على “الاتفاقية الإطارية لحوض النيل” Nile Basin Cooperative Framework Agreement (CFA)، أو “اتفاقية عنتيبي”، في 8 يوليو الماضي (لتصبح سادس دولة تصادق عليها بعد إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وبوروندي، فيما وقَّعت عليها كينيا ولم تصادق بعدُ)؛ وهي الخطوة التي عزَّزت موقف إثيوبيا الهادف إلى محاصرة مصر مائيًّا، كما اتضح في الخطاب الدبلوماسي الإثيوبي في منابر عدة (حتى في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة)([2])؛ الذي اعتبر تصديق جنوب السودان انتصارًا للرؤية الإثيوبية في “إصلاح” التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل؛ نظرًا لكون توقيع “جوبا” متمِّمًا للنصاب القانوني لتفعيل الاتفاقية وإقامة مفوضية حوض النيل لإدارة شؤون الحوض المائية بقرارات ملزمة.

وكانت إثيوبيا أكثر الدول ترحيبًا بخطوة “جوبا”؛ حيث بادر “آبي أحمد: بوصف الخطوة بأنها “لحظة تاريخية” لإثيوبيا التي كانت تدفع بقوة للتصديق على الاتفاقية على مدار عقد (بما يوحي بأن الاتفاقية مشروع إثيوبي بالأساس، وليست مبادرة إقليمية مشتركة). ووصف هذه الخطوة الدبلوماسية الضخمة بأنها تدل على “قفزة هائلة في تطلعنا الجماعي (لتحقيق) تعاون إقليمي في حوض النيل”، وأن التصديق سيمثل دفعة للعمل نحو المصلحة المشتركة لشعوبنا “عبر تأسيس مفوضية حوض النيل”.

فيما أكد مسؤولون إثيوبيون -في نبرة زعامة وتوجيه تتسق مع تلك التي يجيد استغلالها رئيس الوزراء الإثيوبي- أن الوقت قد حان “لدول حوض النيل بأن تسرّع من عملية تأسيس آلية مستدامة يتم من خلالها تكوين المفوضية”([3]). بينما تراجعت التعليقات الدبلوماسية لحكومة “سلفا كير” على الخطوة مقارنةً بالتعليقات الإثيوبية؛ مما يؤشر إلى حجم الارتباط بين توجُّه “جوبا” في الملف ووجود ضغوط إثيوبية مباشرة عليها، لا سيما أن جنوب السودان لا يعاني من “مشكلات مائية” (أو ندرة الموارد المائية) تُذْكَر حاليًّا، أو حتى على المدى البعيد.

أما الملف الثاني فتمثل في تصديق جوبا (مع إثيوبيا وجيبوتي) على “معاهدة إيجاد” IGAD Treaty الجديدة في منتصف شهر سبتمبر الماضي، التي عدَّتها الدول المُوقِّعة عليها خطوةً مهمة في مسار تجديد الاتفاق التأسيسي للهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد”، وتم تبنّيها مِن قِبَل رؤساء الدول والحكومات خلال الدورة الرابعة عشرة العادية لقمة إيجاد المنعقدة في جيبوتي في منتصف يونيو 2023م. وتعمل المعاهدة -وفق إيجاد- على توسيع وتنويع مجالات التعاون بين الدول الأعضاء، وتقوية ارتباط المجموعة بالمجتمع الدولي.

وعبَّر الأمين التنفيذي لـ”إيجاد” السيد “ورقنه جيبييهو” عن عميق امتنانه وتقديره للدول التي صادقت على المعاهدة؛ “لتحركها الحاسم نحو التصديق على المعاهدة الجديدة … (مما) يعكس التزامها بتعزيز التعاون والوحدة الإقليميين”، مشجِّعًا بقية الدول الأعضاء على الاقتداء بتلك الدول، وإكمال عملية التصديق([4]).

ويكشف التزامن بين الخطوات الجنوب سودانية والإثيوبية في مجال التعاون الإقليمي وملف النيل عن طبيعة توجهات “جوبا” الإقليمية التي باتت أكثر ارتباطًا بالأجندة الإثيوبية بشكل بالغ الوضوح، وربما مبرَّر على أساس المصالح الاقتصادية المرتقبة بين البلدين، لا سيما في قطاع الطاقة.

جوبا والأزمة في السودان: النفط أولًا!

كان جنوب السودان من أكثر الدول المعنية بالأزمة في جاره الشمالي، وسعيًا لوقف الحرب بين أطرافها؛ لاعتبارات عدة، من بينها التداعيات الخطيرة لأيّ اضطرابات أمنية في السودان على مصالح جنوب السودان المجتمعية والاقتصادية على حد سواء. لكنّ توقُّف خط أنابيب النفط جبلين- بورتسودان في مطلع فبراير 2024م مثَّل ضربة قوية لاقتصاد جنوب السودان، وبدرجة أقل لنظيره السوداني. وسعت البلدان إلى حل المشكلة التقنية بعد اكتشاف تكتل صلب في الخط في محطتي الضخ 4 و5 الواقعتين داخل منطقة صراع عسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

وكان هذا الملف، إلى جانب دراسة أوضاع نحو 2.2 مليون لاجئ سوداني في معسكرات داخل جنوب السودان -مع عودة نحو 600 ألف لاجئ جنوب سوداني كانوا فارين إلى السودان قبل الأزمة في الأخير إلى بلادهم: جنوب السودان- الأبرز خلال قمة جمعت بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان والرئيس الجنوب سوداني سلفا كير في جوبا (في 16 سبتمبر، وهي الثانية بين القائدين في غضون شهرين فقط). وكانت إثيوبيا حاضرة في قلب هذه التفاهمات السودانية- الجنوب سودانية؛ إذ ناقش الملف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال لقائه في يوليو الماضي مع البرهان في مدينة بورتسودان حسبما أعلنت مصادر مختلفة وقتها([5]).

وبعد زيارة البرهان لجوبا بساعات تم الإعلان عن اتفاق البلدين على استئناف إنتاج النفط (في البلدين)، وتصديره (من مناطق إنتاجه في جنوب السودان عبر خط الأنابيب إلى بورتسودان) حسب تفاصيل ظهرت عقب الاجتماع، وأنه ركَّز بالأساس على استئناف جنوب السودان تصديره نفطه عبر السودان بعد أربعة شهور من العطل التقني الذي ضرب الخط في فبراير الفائت، وإعلان البرهان خلال وجوده في جوبا عن إكمال الفرق الفنية السودانية الاستعدادات التقنية الضرورية لاستئناف إنتاج النفط وتصديره ([6]).

ويكتسب هذا الملف أهميةً فائقةً لما يلعبه قطاع النفط من دور رئيس في دعم الاقتصاد الجنوب سوداني (وصل إنتاج جنوب السودان في العام 2023م إلى نحو 3.5 بليون برميل من النفط بمتوسط يومي 149 ألف برميل، وكان متوقعًا ارتفاع نمو القطاع بمعدل 1.5% سنويًّا في الفترة 2022- 2027م على أن يصل الإنتاج اليومي في العام الأخير إلى 160 ألف برميل يوميًّا أو ما يقرب من صادرات بقيمة 4 بلايين دولار عند معدل سعر البرميل بقيمة 68 دولارًا، وهو رقم يتجاوز موازنة جنوب السودان في العام 2022-2023م التي بلغت 2.7 بليون دولار([7]).

جنوب السودان والنفاذ إلى البحر الأحمر:

واتصالًا بالأهمية الكبيرة لصادرات النفط الجنوب السودانية التي يمكن أن تُعزّز الأداء الكلي لاقتصاد البلاد تأتي مساعي “جوبا” للوصول إلى منفذ على البحر الأحمر أو المحيط الهندي (بشكل منفرد أو عبر التنسيق مع إثيوبيا) مفهومة تمامًا.

وقد عبَّرت “جوبا” في سبتمبر الماضي عن تفاؤلها إزاء خطط إعادة تصدير النفط مجددًا لتمويل موازنة العام المقبل بشكل كبير، والتي قدَّرتها مصادر بنحو 1.6 بليون دولار([8])؛ لكن سرعان أن بدت عقبات التصدير قائمة مع استمرار وجود عناصر من “قوات الدعم السريع” على خطوط تماس تصدير البترول (حسب تقارير لراديو دبنقا في 20 سبتمبر)، وإن نجاح الاتفاق بين البرهان وكير يعتمد تمامًا على مدى التقدم الذي يمكن أن تحرزه القوات المسلحة السودانية في مواجهة “الدعم السريع” في تلك المناطق([9]).

وارتبط بذلك الأهمية التي تُوليها “جوبا” لفكرة مدّ خط نفط يمر عبر الأراضي الإثيوبية، ومنها إلى ميناء جيبوتي كحل مستدام لأزمات جارّها في الشمال، وتداعياتها على خطط تصدير النفط الجنوب السوداني. وقد ناقش خططًا بهذا الصدد الرئيس سلفا كير خلال وجوده في الصين (لحضور فعاليات منتدى التعاون الصيني الإفريقي)، التي تحتكر منذ سنوات قطاع إنتاج النفط وتصديره في السودان (وجنوب السودان بعد العام 2011م)، رغم دخولها في القطاع في العام 1995م ومنافستها القوية مع شركات أمريكية بارزة مثل شيفرون وغيرها، ومواجهتها أعباء العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان في قطاع النفط ([10]).

كما ارتبطت مساعي “جوبا” لتحقيق استقرار في صادرات النفط بخطط الصين الاستثمار في البنية الأساسية لقطاع الطاقة في مجمل منطقة شرق إفريقيا بشكل عام وفي جنوب السودان على وجه التحديد. واتضح ذلك في زيارة كير لبكين مطلع سبتمبر الجاري. وبناء على ذلك تعمَّقت محادثات حكومة جنوب السودان مع شركة البترول الوطنية الصينية China National Petroleum Corp الخاصة بإقامة خط أنابيب نفط خام بديل عن الخط المارّ بالسودان مع تزايد اعتماد الصين على البترول الجنوب سوداني مستقبلًا. وتعمقت تلك المشاورات بعد لقاء سلفا كير برئيس الشركة الصينية داي هوليانج Dai Houliang ومناقشة مسار الخط من جنوب السودان إلى إثيوبيا ثم إلى ميناء جيبوتي “من أجل تعزيز قدرات التصدير، وتوسع استخراج النفط في المنطقتين 3، و7” وفقًا لبيان صدر عن الرئاسة الجنوب سودانية([11]).

وهكذا يبدو أن مساعي “جوبا” للوصول لمنفذ بحري لصادراتها البترولية إما لتعويض أي ضرر طارئ بالخط المارّ إلى بورتسودان (مثلما حدث منذ فبراير الفائت)، أو لتعزيز القدرات التصديرية الإجمالية للنفط الجنوب السوداني، مع توقُّع شركات صينية تزايد سقف إنتاج البلاد مستقبلًا، ستكون متسقة تمامًا مع مساعي دول حبيسة أخرى مثل إثيوبيا أو على الأقل تلتقي معها عند مصالح مشتركة على المدى القريب.

خلاصة:

مع تمديد حكومة الرئيس سلفا كير لولايتها كحكومة انتقالية لمدة عامين آخرين وسط معارضة دولية واضحة؛ يبدو أن سياسات “جوبا” الإقليمية تميل إلى تحقيق مكاسب اقتصادية عاجلة لإنقاذ الاقتصاد الجنوب سوداني في المقام الأول، وفق اعتبارات مفهومة تمامًا، وتزيد من أعباء “جوبا” الخارجية في المرحلة المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى