الغريب في الوضع الأوروبي ليس تبني الحكومات سياسات خاطئة، ولكن الاستمرار في الخطأ، والأغرب من ذلك هو محاولة الأوروبيين إقناع الدول النامية بتبني هذه السياسات الخاطئة. لهذا يمكن القول إنه من دون تغيير ثوري، فإن أوروبا بلغت أوجها وهي في مرحلة الانحدار. ولعل أبرز دليل على الفشل المتكرر للسياسات هو شيوع سياسة “الترقيع”، تبني سياسة جديدة، فشل، سياسة أخرى لإصلاح السياسة القديمة، أعراض جانبية، سياسات جديدة للحد من الأعراض الجانبية، مزيد من الفشل، وهكذا دواليك.
سياسات الطاقة المتطرفة
أوروبا هي الخاسر الأكبر من تبني سياسات طاقة متطرفة. فها هي ألمانيا تعاني ارتفاع أسعار الطاقة، التي أصبحت من الأعلى في العالم، وبدأت المصانع تغلق أبوابها والشركات تحقق خسائر كبيرة، وبدأت صناعة السيارات التي اشتهرت بها بالأفول. وها هي بريطانيا تعاني مرات عدة في السنة من نقص إمدادات الطاقة وارتفاع شديد في الأسعار بسبب توقف الرياح، ونقص إمدادات الكهرباء المولدة من عنفات الرياح، الذي يعني زيادة الطلب على الغاز وارتفاع أسعاره. بريطانيا فرضت ضرائب استثنائية على شركات النفط والغاز المنتجة في بحر الشمال، فانهارت الاستثمارات في القطاع، وحولت الشركات استثماراتها إلى أماكن أخرى حول العالم. ونتج من ذلك استمرار هبوط إنتاج النفط والغاز في بريطانيا. هذا يعني بالضرورة زيادة اعتماد بريطانيا على واردات النفط والغاز، وهذا يعارض سياساتها على مدى الـ45 عاماً الماضية: تخفيض الاعتماد على واردات النفط والغاز! الدنمارك قررت وقف الاستثمار في قطاع النفط والغاز وركزت على الطاقة المتجددة. كان هناك مناقصة ضخمة لبناء مشروع طاقة هوائية بالبحر في الأسبوع الماضي، ولم يدخل المنافسة أحد. ولا حتى شركة واحدة. الكلف عالية، وهذه المشاريع تتطلب إعانات ضخمة.
اقرأ أيضا.. احتفال “نوتردام” احتفاء بتاريخ قارة لا مستقبل واضحا لها
مع ارتفاع أسعار الطاقة بسبب انخفاض صادرات الغاز الروسية وتقطع الطاقة المتجددة وعدم انتظامها، ارتفعت أسعار الطاقة بصورة كبيرة، فقامت الحكومات الأوروبية بتقديم إعانات للمستهلكين، وهذا يتضمن إعانات للكهرباء والغاز والبنزين والديزل. هذه الحكومات، ومن ورائها صندوق النقد الدولي، حاولت لأعوام طويلة إقناع الدول النامية بعدم تقديم إعانات لمستهلكي الطاقة لأنها استنزاف للموازنة، وخطر على الأسواق، ومهددة للنمو الاقتصادي، ومسببة للتضخم. ولكن عندما ارتفعت الأسعار في بلادهم رموا كل هذه “الحكم” في البحر! انقلب السحر على الساحر، لأن هدف الحكومات الأوروبية هو تخفيض استهلاك “الوقود الأحفوري” لتخفيض انبعاثات الكربون وتحقيق أهداف سياسات التغير المناخي، وتقديم الإعانات خفض الأسعار، فزاد الاستهلاك، وزادت الانبعاثات، ورقع يا مرقع!
مشكلة الحكومات الأوروبية عدم إدراكها أن مشكلة التغير المناخي حصلت على مدى بضع مئات السنين، ويريدون حلها خلال من 20 إلى 30 عاماً، وهذا غير ممكن.
أوروبا والحرب في أوكرانيا
أوروبا هي الخاسر الأكبر من الحرب في أوكرانيا. فالحرب لم تستنزف بعض الدول الأوروبية مالياً فحسب، وإنما كبدتها خسائر كثيرة من إيواء اللاجئين إلى ارتفاع أسعار الطاقة.
انخفاض صادرات الغاز إلى أوروبا كلف الدول الأوروبية مبالغ مليارية حتى الآن لأنها اضطرت إلى استيراد الغاز المسال بأسعار بلغت أضعاف ما تدفعه ثمناً للغاز الروسي. وكان المستفيد الأكبر هو الولايات المتحدة التي أصبحت منذ ذلك الوقت أكبر مصدر للغاز المسال في العالم.
بعض الدول الأوروبية قررت أن توقف أو تخفض صادرات الغاز من روسيا، بينما قررت إدارة بوتين وقف هذه الصادرات إلى الدول الأخرى، والجزء الثاني أكبر من الأول. لم تفرض الدول الأوروبية حظراً على الغاز الروسي، وهذا يمثل مشكلة أخلاقية كبيرة: مصالحها تقتضي أن تكون مع أوكرانيا ما دامت مصالحها لم تتأثر. أما وقف بوتين ضخ الغاز لبعض الدول الأوروبية فكان بعض منه عقوبة لبعض الحكومات، والجزء الآخر لإجبار الدول الأوروبية على استيراد الغاز المسال الروسي. وأكبر الدول المستوردة للغاز الروسي هي فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.
وقعت ألمانيا عقداً طويل الأمد لشراء الغاز المسال الروسي، ولكن “الحياء الألماني” من الحرب في أوكرانيا جعلها تتوقف عن استيراد الغاز المسال الروسي. المواطن الألماني يظن أن حكومته وقفت موقفاً مشرفاً من الحرب الأوكرانية بوقوفها مع أوكرانيا ومعاقبة بوتين بوقف واردات الغاز المسال الروسي. ولا يعرف أن حكومته نسقت مع الروس والفرنسيين لإرسال الشحنات إلى فرنسا حيث يتم إعادة تغويزها وإرسال الغاز الروسي عبر أنابيب إلى ألمانيا، وهكذا تظهر الحكومة رسمياً أن واردات الغاز جاءت من فرنسا ولا تستورد أي غاز من روسيا. وطبعاً، الأسعار أضعاف ما كانت تدفعه لروسيا عندما كان الغاز الروسي يتدفق إلى ألمانيا عبر الأنابيب.
أوروبا والبحر الأحمر
الخاسر الأكبر مما حصل في البحر الحمر هي أوروبا، فتحويل السفن من البحر الأحمر والمرور حول أفريقيا رفع كلف الشحن بصورة كبيرة. فالبضائع الآسيوية الذاهبة إلى أوروبا ارتفعت كلف شحنها، كما ارتفعت كلف شحن البضائع الأوروبية إلى آسيا. وإذا مرت السفن من البحر الأحمر فإن كلف الشحن ارتفعت أيضاً بسبب ارتفاع كلف التأمين وأجور البحارة الذين طالبوا بزيادة الأجور لأن حياتهم معرضة للخطر. حتى الغاز القطري الذاهب إلى أوروبا يشحن حول أفريقيا وليس عبر البحر الأحمر.
النفط الروسي يصل إلى آسيا عبر البحر الأحمر بأسعار مخفضة، بينما تدفع الدول الأوروبية ثم السوق، كلف شحنه حول أفريقيا. إذا مرت الحاملات عبر البحر الأحمر فكلفها عالية بسبب التأمين وأجور العمال كما ذكر سابقاً.
غالب الدول الأوروبية تعاني حالياً من ضعف النمو الاقتصادي، ولا يتوقع أن يتحسن ذلك في ظل سياسات طاقة متخبطة وحروب تجارية مع الصين. بعض الدول الأوروبية الصغيرة نسبياً قد تعاني مشكلات اقتصادية مع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، لأنه كان لوجودهم دور كبير في تحسن أسواق العقار والإنفاق الحكومي والاستهلاك بصورة عامة.
خلاصة القول، إن سياسات الطاقة المتطرفة في أوروبا تقودها إلى الهاوية. وإذا لم يتم التغيير سريعاً، فإنه يمكن القول، إن أوروبا بلغت أوجها وبدأت بالانحدار. ويعزز ذلك استقطاب الولايات المتحدة الآن لرؤوس الأموال والعقول الأوروبية.