بعد أن فوض معظم الشؤون الدبلوماسية العامة إلى اللورد كاميرون منذ تعيينه بشكل غير متوقع في منصب وزير الخارجية، أمضى ريشي سوناك بعضاً من هذا الأسبوع في ما بدا وكأنه زيارة دبلوماسية سريعة وغريبة خاصة به.
لم تكن الزيارة الدبلوماسية أقل من رحلة استكشافية إلى أوروبا، ولكن ليس أوروبا بمعنى الاتحاد الأوروبي أو بروكسل أو حتى باريس، حيث كان يمكن أن نستشف محاولة تقارب بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). لقد ذهب رئيس الوزراء إلى بولندا وألمانيا، وفي ذهنه ما يبدو أهدافاً مختلفة إلى حد ما.
بولندا وألمانيا… ما من حاجة هنا إلى التذكير بأن علاقات بريطانيا مع كلا البلدين كانت، فلنقل إشكالية، على مدى القرن الماضي تقريباً. وعلى رغم إشادة سوناك لصديقه الألماني أولاف (المستشار شولتز)، بالتاريخ الطويل من العلاقات الممتازة، لكن يبدو أن كلمة “طويل” فيها قدر معين من المرونة.
لكن لنبدأ من حيث بدأ سوناك، في بولندا، حيث بدا ترتيب هاتين الزيارتين متعمداً للغاية. لقد جعل سوناك وارسو تشعر بالامتياز إذ هبط أولاً في بولندا، وبعد ذلك فقط سافر إلى برلين في أول زيارة رسمية له إلى ألمانيا كرئيس للوزراء.
نعم، هذا صحيح: يتولى سوناك منصب رئيس الوزراء منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022 ولكن قدمه لم تطأ عاصمة أكبر (ما زالت) وأغنى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. ويذكر أن الملك تشارلز قام بزيارة رسمية إلى ألمانيا، كانت الأولى في عهده، لاقى خلالها ترحيباً عارماً، كما زار كاميرون بدوره برلين في وقت سابق من هذا العام، فيما بقي ظل رئيس الوزراء بعيداً.
لقد حملت زيارة سوناك إلى بولندا مجموعة من الإشارات، إذ يمكن اعتبارها تأييداً للحكومة الجديدة التي يرأسها دونالد تاسك اللطيف والراقي، بعد انتخابات العام الماضي. وكان تاسك أقل نجاحاً في توجيه المسار الذي اختاره مما كان يأمله أنصاره في بولندا وبروكسل، كما خسر حزبه مقاعد في الانتخابات المحلية الأخيرة، وهو ما لا يبشر بالخير لانتخابات الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران)، ولكن في الوقت الحالي على الأقل، نستطيع أن نعتبر بولندا، بقيادة تاسك دولة صديقة.
نتيجة شكوكهم في نزعة الاتحاد الأوروبي الفيدرالية وعلاقاتهم ببروكسل التي لم تكن دوماً وطيدة، خسر البولنديون حليفاً يتسم بتفكير مماثل في الاتحاد الأوروبي بعد “بريكست”، ولكن بولندا عوضت عن أي خسارة نتجت عن ذلك للنفوذ بعد غزو روسيا لأوكرانيا، إذ ترأست هي فعلياً دعم الاتحاد الأوروبي لكييف، وتعزز موقفها بادعائها بأنها كانت “على حق في شأن روسيا”. إن الشكك المتجذر بالاتحاد الأوروبي في بولندا، وحجم البلاد الواسع، ودعمها لأوكرانيا، وإن كان ضعيفاً في بعض الأحيان، كلها عوامل تجعل من بولندا أكثر دولة صديقة واعدة لبريطانيا بعد “بريكست” في الاتحاد الأوروبي التي يجب الحفاظ عليها.
وعكس الملف الرئيس، الدفاع، الذي تم تداوله خلال الزيارة، التوجه في تفكير المملكة المتحدة ومعايير اختيار أفضل أصدقائها في الاتحاد الأوروبي. وهنا، لم يعلن سوناك عن مساعدات إضافية لأوكرانيا فحسب، بل أعلن ما سماه “أكبر تعزيز لدفاعنا الوطني منذ جيل”، ألا وهو زيادة في الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030. وكدليل على جديته، ضم سوناك إلى زيارته كلاً من وزير الدفاع ومستشاره. وفي المقابل، كان في لقائهم في وارسو ليس رئيس الوزراء تاسك فحسب، بل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ.
وبالمثل، كام ملف الدفاع أيضاً محور المباحثات عندما وصل سوناك إلى برلين، حيث تم “إعادة توجيه” الخطاب البريطاني عن الحرب العالمية الثانية بشكل أساسي ليطبق على الحرب الباردة واليوم. لذا، تحدث سوناك في مقطع الفيديو الخاص به إثر الزيارة إلى بوابة براندنبورغ باعتبارها “نصباً تذكارياً للحرية والسلام”، من دون ذكر السوق المشتركة لمرة واحدة كمشروع للسلام. وقال، “لن نتردد في الدفاع عن بلادنا وعن العالم الديمقراطي الحر”، مضيفاً أن النجاح “يتطلب نفس الصفات التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة”.
على رغم صداقة سوناك مع شولتز، وذكرياتهما معاً من حقبة “كوفيد-19” كوزراء للمال، لا يمكن أن يكون بعض الإحراج في حديث المملكة المتحدة عن التعاون الدفاعي والعسكري مع الألمان، لأسباب تاريخية واضحة، ولكن أيضاً بسبب الشكوك حيال ما تعتبره المملكة المتحدة، على غرار الولايات المتحدة، خجلاً ألمانيا في تزويد أوكرانيا بإمدادات الأسلحة.
يدور الجدل الأخير حول صواريخ توروس الألمانية، التي تسببت بما قد يكون أو لا يكون هفوة محرجة من قبل شولز عندما برر رفض ألمانيا تزويد أوكرانيا بصواريخ توروس بالقول إنه ثمة حاجة إلى قوات ألمانية لتقديم الدعم ميدانياً، كما كان مع Storm Shadow في المملكة المتحدة. وكانت هذه المعلومة الأولى التي يطلع عليها الرأي العام البريطاني عن وجود عديد بريطاني على الأرض في أوكرانيا، وقد كشف على أقل تقدير انتهاكاً للبروتوكول (في إشارة إلى دولة ثالثة)، إن لم يكن هفوة استخباراتية مباشرة. وكانت النتيجة لحظة سيئة للغاية في العلاقات الألمانية البريطانية طغت بتأكيد اجتماع شولتز وسوناك هذا الأسبوع في برلين.
إن قيام المملكة المتحدة بجعل الدفاع محورياً في العلاقات مع ألمانيا له جانب آخر أيضاً. وكانت فرنسا شريك بريطانيا الدفاعي منذ فترة طويلة في أوروبا، وكان التعاون الدفاعي هو الموضوع المتكرر في المناقشة الودية في ظل توترات في شأن ملفات أخرى، لكن هذا قد يتغير، على كلا الجانبين.
ومن ناحية أخرى، ثمة وجهة نظر تزداد انتشاراً مفادها أن ألمانيا، باعتبارها أكبر مزود بالمساعدات إلى أوكرانيا في أوروبا، سوف تحل حتماً مكان فرنسا في زعامة الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع. وحتى لو كان هذا الاستنتاج سابق لأوانه، فإنه غير مرحب به على الإطلاق من جانب فرنسا، وبخاصة بالنسبة إلى إيمانويل ماكرون، الذي شكل “الاستقلال الاستراتيجي”، أي إنهاء اعتماد أوروبا الدفاعي على الولايات المتحدة، الموضوع الرئيس لرئاسته.
وفي خطاب ألقاه في جامعة السوربون هذا الأسبوع، أكد ماكرون حاجة أوروبا إلى تحمل مزيد من المسؤولية عن الدفاع عن نفسها، ليس فقط في التعاون بين القوات المسلحة، بل وأيضاً في مجال إنتاج الأسلحة. لطالما كان من الصعب على المملكة المتحدة أن تتقبل “الاستقلال الاستراتيجي”، لأنه يعني ضمناً إضعاف التحالف عبر الأطلسي، كما تدافع عنه لندن، حتى لو بدا الاعتماد الأقل على الولايات المتحدة إجراء احترازياً معقولاً، مع احتمال ظهور ترمب عبر ولاية رئاسية جديدة تلوح في الأفق.
وفي الخطاب نفسه، بدا ماكرون أيضاً وكأنه يرمي المجاملات الدبلوماسية أدراج الرياح تجاه المملكة المتحدة، عندما دان فكرة إرسال طالبي اللجوء، وهي السياسة التي دافع عنها شخصياً ريشي سوناك، إلى رواندا باعتبارها غير أوروبية. ويأتي هذا بعد وقت قصير من الاحتفال في وقت سابق من هذا الشهر، في لندن وباريس، بالذكرى السنوية الـ20 بعد المئة للاتفاق الودي، مما يشير إلى أن فرنسا ربما تكون قد تخلت بالفعل عن العلاقات مع المملكة المتحدة بعد “بريكست” أو على الأقل مع الحكومة الحالية.
ومن جهة أخرى، كانت هناك تلميحات إلى أن فرنسا أيضاً تحاول إرساء علاقات دفاعية أوثق مع ألمانيا. قد يكون الأمر مجرد صدفة، لكن في نفس اليوم الذي كان فيه سوناك يناقش مشاريع الدفاع المشتركة مع شولتز، كان وزيرا دفاع فرنسا وألمانيا يناقشان خططهما الثنائية في باريس.
ربما يكون من السابق لأوانه القول إن العلاقة الدفاعية الخاصة بين المملكة المتحدة وفرنسا إما ماتت أو تحتضر، ولكن مع محاولة المملكة المتحدة التقرب علناً من بولندا وألمانيا في المسائل العسكرية والدفاعية، ومع ظهور فرنسا وكأنها لا تكترث بالعلاقات مع لندن، فإن أيامها تبدو معدودة.
وهذا ما يثير بدوره تساؤلاً حول ما إذا كانت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي تبحث اليوم عن علاقات دفاعية ثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي الأكبر حجماً والأكثر استراتيجية، بدلاً من ربط نفسها بمشروع دفاعي محتمل على مستوى الاتحاد الأوروبي. أو في الواقع، ما إذا كان من الممكن أن يلحق ذلك ضرراً بالعلاقة بين فرنسا وألمانيا في شأن المسألة الكبرى ألا وهي الدفاع الأوروبي.
من المؤكد أن المملكة المتحدة، مع سوناك كرئيس للوزراء، تبدو وكأنها تظهر تفضيلاً للاتفاقيات الثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي، بدلاً من الصفقات الجماعية مع الكتلة ككل. وقد ظهر هذا الأمر جلياً، أخيراً، من خلال التعامل البارد المباشر الذي تعاملت به الحكومة مع اقتراح الاتحاد الأوروبي في شأن حرية السفر للشباب، الذي كان من الممكن أن ينظر إليه على أنه إظهار حسن النية لتحسين العلاقات.
ويصدف أن حزب العمال رفض هذا النهج أيضاً، في دليل هو الأوضح حتى الآن على اقتراب موعد الانتخابات العامة في المملكة المتحدة، حيث من الواضح أن أي شيء يشبه حرية التنقل على الطراز القديم في الاتحاد الأوروبي يعد من المحرمات.
ومن الغريب أنه في الآونة الأخيرة، أصبح مارك كارني، حاكم بنك إنجلترا السابق، هو الصوت المخالف في شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والداعي إلى إبقاء شعلة العودة مشتعلة، كما فعل في خطاب ألقاه في تورونتو هذا الأسبوع، الذي ادعى فيه أن الخروج من الاتحاد الأوروبي دمر مستقبل المملكة المتحدة، وأن وضعها كان أسوأ مما كان يخشى. وشدد على تأكيد سابق بأن الاقتصاد، الذي كان في عام 2016 يعادل 90 في المئة من حجم الاقتصاد الألماني، أصبح الآن أقل من 70 في المائة.
في الوقت الحالي، يركز سوناك، وهو من أنصار “بريكست”، على السياسة الدفاعية. ومن المرجح أن يأتي الاختبار التالي في يوليو (تموز)، في قمة الذكرى السنوية الـ75 لتأسيس الناتو في واشنطن. إن اهتمام المملكة المتحدة الواضح بعلاقات دفاعية أوثق مع ألمانيا وبولندا، وزيادة دعمها المتواضع لأوكرانيا، يمكن أن يؤدي إلى بعض المحادثات المثيرة للاهتمام، بخاصة إذا شعرت فرنسا أن استبعدت عن الموضوع، وأن بلدان الشمال، بدعم من فنلندا والسويد، تريد أن يعلو صوتها الجماعي.
وربما لا يكمن عدم اليقين الأكبر في ما إذا كانت الانقسامات ستظهر أم لا، بل في المكان الذي قد تنفتح فيه الشقوق: بين الولايات المتحدة والمجموعة التي تقودها فرنسا، التي تفضل الحكم الذاتي الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي أو بين الدول التي تتعهد دعم أوكرانيا إلى الأبد، التي تشمل الولايات المتحدة. الأوروبيين الجنوبيين وربما ألمانيا، يريدون إنهاء الحرب.
ولكن أينما تمتد الخطوط الفاصلة، فمن الممكن أن تجد المملكة المتحدة نفسها في المنتصف، محصورة بين أوروبا التي تركتها وبين انتمائها إلى حلف الشمال الأطلسي الذي ولى زمانه.