سوناطراك الجزائرية: عائد برميل مصنع أفضل من برميل يصدر خاما
وجود سوناطراك محدود جدًا وغير قادر على المنافسة، فباستثناء بعض المشروعات النادرة في هذا البلد أو ذاك، لم تقدر حتى على النهوض بالقطاع في بلادها، ولا حتى بناء شراكات قوية وحقيقية مع شركات عالمية كبرى
رغم أن الحضور الحكومي الرسمي في شركة “توتال إنرجيز” يبقى رمزيا، إلا أن هيمنة الصناديق السيادية والشركات العامة على أسهمها يجعلها ذات هوية فرنسية. والعقدة لا تكمن هنا فقط، بل في كون فرنسا ليست بلدا نفطيا أو غازيا، إلا أنها بفضل الشركة المذكورة تعد رائدة في مجال صناعة الطاقة، وهو ما تفتقده على سبيل المثال شركة “سوناطراك” الجزائرية المحتكرة للنفط والغاز في البلاد. ورغم ذلك، فإن الجزائر ظلت واحدة من الدول المستوردة للبنزين إلى غاية السنوات الأخيرة، أما الزيوت والشحوم والمواد ذات الصلة فحدث ولا حرج.
بقدر ما طرحت ندرة عجلات السيارات والمركبات مؤخرا فشلا حكوميا في تزويد وتنظيم السوق المحلية بمادة أساسية ألحقت أضرارا بالعتاد والأرواح، بقدر ما أحال المهتمون على أن الأزمة لا تتعلق بوزارة التجارة وإدارتها للتجارة الخارجية، بل بغياب إستراتيجية دولة حول استثمار إمكانياتها في الطاقة في الصناعات الملحقة بها بما فيها العجلات.
الفارق كبير بين “توتال إنرجيز” وبين سوناطراك، ووجه المقارنة غير عادل، فعلى الأقل عمر الأولى قرن من الزمن والثانية نصف قرن. لكن الأمر ليس معجزًا إلى هذه الدرجة التي تخلق أزمة عجلات في البلاد، والبلاد عضو في منظمة أوبك وفي منتدى الغاز، وهي مُصدِّر للمادتين، لكن تبيعهما خامًا وتستوردها مواد مصنعة، وذلك وجه من وجوه فشل العقل المدبر والمسير في الانتقال من الريع إلى الإنتاج.
توتال هي واحدة من سبع شركات رائدة في العالم في مجال الطاقة، لكن سوناطراك غير مصنفة تمامًا في اللائحة. لكن لا أحد يمكن أن يتجاهل إمكانياتها وقدراتها في السير على نهج الكبار لو توفرت الإرادة السياسية التي تحرر الشركة من البيروقراطية الإدارية وحسابات اللوبيات المتحكمة في دوائر القرار. فزيادة على أنها ظلت بؤرة للفساد من الرأس إلى أخمص القدمين، لم تستطع تحقيق القيمة المضافة لاقتصاد البلاد.
إقرأ أيضا : أكبر عملاء الكرملين.. من هو جون مارك دوغان؟
الكل يتحدث منذ ثمانينات القرن الماضي عن التحرر من التبعية النفطية ومن سياسة الريع، والذهاب إلى تنويع مصادر الدخل القومي، إلا أن نفس الخطاب لا يزال يتردد على الأسماع في مختلف المحافل، ولا شيء تحقق من تلك الشعارات، وهو ما يطرح صعوبات الانتقال من نمط إلى نمط، بسبب عدم التفكير في تثمين والاستفادة مما هو متاح لصالح صناعات ومنتوجات من نفس العائلة في مجال الطاقة.
العائدات تتباين بين تصدير الغاز الخام وبين الغاز السائل، وتلك عينة مما يضيع من فرص على خزينة الدولة وعلى الاقتصاد المحلي عموما. فبرميل النفط الذي يُصدَّر بـ80 دولارا، يمكن أن يحقق عائدا يفوق 200 دولار، لو أقيمت له صناعات بترو كيماوية وتحويلية، ولسمح للبلاد بتحقيق الاكتفاء الذاتي بشكل طبيعي في الكثير من المواد والصناعات ذات الصلة.
فرنسا ليس لها نفط أو غاز، وحتى الغاز الصخري مشطوب عليه بالأحمر بسبب أضراره على الإنسان وعلى البيئة، إلا أن شركة توتال هي واحدة من الشركات الرائدة في مجالات البحث والاستكشاف والتنقيب والتحويل والنقل والتجارة في قطاع الطاقة مما جعلها تتواجد في أكثر من 100 دولة في العالم.
لكن وجود سوناطراك محدود جدًا وغير قادر على المنافسة، فباستثناء بعض المشروعات النادرة في هذا البلد أو ذاك، لم تقدر حتى على النهوض بالقطاع في بلادها، ولا حتى بناء شراكات قوية وحقيقية مع شركات عالمية كبرى، بسبب تضارب القرار السياسي، وغياب إستراتيجية فعالة ومستقلة تضع الشركة في قالب التفكير البراغماتي والمنطق الاقتصادي. فيكفي توتر سياسي أو دبلوماسي عابر أن يورط الشركة في هذا الخلاف أو ذاك.
العديد من الدول تحررت تدريجيا من تبعية النفط واقتصاد الريع، وسخرت عائداتها من قطاع الطاقة لمستقبل الأجيال القادمة أو لصناديقها السياسية، ولم تتخل تماما عن النفط، فهي لا تستنفد قدراتها في الضخ المستمر، بل في تحويل الضخ نفسه إلى اقتصاد قائم بذاته. ولذلك لا يضرها أن تنتج ما لديها أو تستورده من الخارج، لأن المبدأ عندها هو أن “الفلوس تدفع بعضها بعضا”. فاستخراج برميل نفط يحقق عائدا بأكثر من 200 دولار، أفضل بكثير من تصديره خاما بـ60 دولارا، مع بث روح الكسل والاتكال داخل المجتمع.
ويتجلى ذلك في أن الجزائر بلد النفط والغاز في شمال أفريقيا، يعتمد إلى حد الآن على محطات تكرير موروثة عن العهد الاشتراكي الذي أقامه الرئيس الراحل هواري بومدين في سبعينات القرن الماضي، ولا تتعدى قدرات إنتاجها الـ650 ألف برميل يوميا، بينما تستورد الزيوت والشحوم والعجلات والأواني البلاستيكية والغازات والمواد الأولية.. وغيرها، ولا تتوفر إلى حد الآن إلا على ست محطات للتكرير موزعة جهويا لتلبية جزء من الحاجيات المحلية.
أمام الحكومة وأمام سوناطراك تحديات كبيرة للاستفادة من إمكانيات البلاد في النفط والغاز، خاصة وأن سقف الإنتاج في تراجع والطلب الداخلي في ارتفاع، وهو ما يرشح الجزائر لمغادرة منتديات المصدرين بعد عقود قليلة. ولذلك لم يبق لها إلا استثمار الكفاءات المحلية وإقامة شراكات حقيقية لإقامة صناعات في مجال الطاقة وليس تصدير الخام. وحينها لا ضير للجزائر إذا انتهى النفط والغاز من باطن الأرض، لأن استيراد برميل سيحقق لها أكثر من البرميل الذي كانت تصدره خاما.