منذ بداية الحرب على غزة، ظهر أن إسرائيل تتحرّك بغطاء سياسي وعسكري شامل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا. وظهر واضحاً منذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب أن أهداف إسرائيل غير المعلنة أبعد من مجرد القضاء على “حماس”. في المقابل، أظهرت الإدارة الأميركية بشكل واضح أنّها لا تريد للحرب على غزة أن تتحوّل إلى حرب إقليمية، وبخاصة تدخّل إيران وحلفائها في ما يُعرف بـ”محور المقاومة”. ولعلّ تحريك حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط، وتعزيزها بحاملة طائرات ثانية هي “يو أس أس دوايت أيزنهاور” كما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، الغاية منه تقديم أقصى إشارات الردع للأطراف الإقليمية حتى لا تتدخّل.
يبدو أن سلاح الردع الأميركي أعطى نتائج جيدة إلى حدود الهجوم الإيراني الاستعراضي “الخفيف” بعد قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. لكن إيران لم تردّ بالصورة التي كان ينتظرها مؤيّدوها، لذلك ينتظر الجميع اليوم ردّ إيران و”حزب الله” المزلزل لإسرائيل بعد عمليتي الاغتيال التي استهدفت كلاً من إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية. في هذه الظروف الإقليمية شديدة التعقيد، يُطرح السؤال عن فاعل إقليمي شغل الناس لعقود، وكانت له صولات وجولات في المنطقة، لكنه الآن يختفي إلى درجة الاندثار الكلي. الحديث هنا عن سوريا.
شهدت سوريا منذ بداية ما سُمّي “الربيع العربي” إنهياراً شبه كلي للدولة، في بلد دشن للإنقلابات العسكرية منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، أي منذ الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم على دولة الاستقلال الحديثة. ومنذ ذلك العهد، لم تعرف سوريا أبجديات الصراع الديموقراطي، بل عرفت تكريساً لقادة عرفوا – فقط – كيف يحكمون بالحديد والنار.
أبت سوريا إلّا أن تتحول إلى أول نظام رئاسي وراثي في التاريخ، قبل أن يحدو حدوها النظام الكوري الشمالي والكوبي وأنظمة عربية أخرى حاولت التمرن على هذه الوصفة القاتلة، فكانت نهايتها غير السعيدة في تونس ومصر وليبيا واليمن. هكذا، عاشت سوريا أزيد من نصف قرن في ظل حالة الطوارئ، وكان وجود إسرائيل هبة سماوية لنظام البعث السوري، فارتفعت أصوات التخوين ضدّ كل صوت يطالب بالتغيير، وارتفع الشعار الكاذب “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. فلم يشهد السوريون والعالم أثراً لمعركة أو منصات لإطلاق الصواريخ باتجاه الكيان الصهيوني، بل شاهدوا فقط منصات للخطابة والشعارات والمزايدات الكلامية على أنظمة عربية أخرى في الجوار وفي غيره، وتأييداً لتمزيق شعوب أخرى نظير الشعب المغربي من خلال الدعم الذي قدّمته القيادة السورية لعدد من المشاريع الانقلابية والثورية والانفصالية.
كانت فترة الوجود السوري في لبنان إحدى الفترات الأشدّ قتامة بالنسبة إلى نظام شمولي يدّعي دعم المقاومة في بلد صغير، ويزايد عليه كلامياً، بينما الجولان السوري لم تُطلق فيه طلقة واحدة منذ أن بسطت إسرائيل يدها عليه. فما كان من القيادة البعثية السورية إلّا نصب منصات في المنطقة المحاذية للجولان، واصفة الوادي الموجود في المنطقة بـ “وادي الصراخ”، حيث يتخاطب أهل الجولان في ما بينهم، ويأتي مريدو النظام من العرب كسياح ليشاهدوا تلك المسخرة. وقد تساءلت دائماً لماذا لا توجد نسخة سورية من “حزب الله” في الجولان المحتل؟ ولماذا لم يسمح النظام السوري أبداً للمقاومة الفلسطينية أن تشن عمليات من داخل التراب السوري لتحرير الجولان وفلسطين التي يتباكون عليها صبحاً ومساءً؟
في لبنان، وقبل تحريره من الوجود السوري بفضل تغيّر العوامل الإقليمية، كنت تجد في الطرق والشوارع -بما فيها العاصمة بيروت – نقاطاً للتفتيش للجيش السوري، تضع العلم السوري وصور حافظ الأسد، وتطلب من المواطنين اللبنانيين في بلدهم تقديم ما يثبت الهوية وأوراق السيارة وما إلى ذلك. وفي جبل لبنان، شاهدت كيف احتل الجنود السوريون عدداً من الضياع والبيوت والفيلات كمقرّات للإقامة أمام أعين أصحابها، في عملية ظالمة تواطأ فيها الجميع ضدّ الشعب اللبناني. وعندما كان العرب متضامنين مع العراق، اختار جناح البعث السوري أن يكون ضدّ الإجماع العربي تصريفاً لأحقاد سابقة بين جناحي البعث، ولأسباب أخرى مذهبية، فأعلن انخراطه الكلي في المشروع الإيراني في المنطقة.
أما بخصوص قمع المعارضين، فنظام البعث السوري له صولات وجولات في قمعهم. وكان للأكراد حصة “محترمة” من نظام قومي شمولي وشوفيني، لم يتجرأ في يوم من الأيام أن يطرح مع حليفته إيران مأساة الأقلية العربية في منطقة الأحواز، واجتهد في طمس الهوية واللغة الكرديتين، بل قام بحرمان الآلاف منهم من الجنسية السورية، وهو ما تمّ الإفراج عنه لمناسبة إنطلاق الثورة التي تحولت إلى خراب وتقسيم للبلد، حيث منحت الجنسية السورية لأزيد من 200 ألف كردي، وللقارئ أن يتساءل عن طبيعة نظام سياسي يحرم مواطني البلد من حق الجنسية.
ما جرى ويجري في سوريا، التي تحولت إلى محمية روسية – إيرانية، إضافة إلى مناطق نفوذ تتقاسمها الدول الغربية والجماعات المتطرّفة، له أبعاد مختلفة، ليس على سوريا وحدها بل على المنطقة كلها. فلبنان لن يعرف الاستقرار بفعل تبادل دمشق وإيران دور الفاعل الإقليمي. فإذا كان لسوريا دور كبير إبان الحرب الأهلية اللبنانية، فبعد ما سُمّي “الربيع العربي” نجد طهران قد بسطت نفوذها في المنطقة، وأصبحت أكبر لاعب إقليمي في المنطقة، بفضل ارتباط “حزب الله” بطهران ارتباطاً عقدياً ومذهبياً وسياسياً وعسكرياً، ما دام النظام السوري يواجه فقط معركة البقاء خوفاً من نهايته المحتومة، و”حزب الله” أيضاً استفاد من هذا الوضع، وأصبح مصيره مرتبطاً وجودياً بإيران.
إقرأ أيضا : هل أميركا معنية فعلًا بإنهاء الحرب على غزة؟
هكذا، قاد النظام الشمولي في سوريا البلد إلى ما هي عليه اليوم، من تشرذم وتمزيق ومحميات أجنبية تنهش وحدة الشعب والأراضي السورية، وتؤدي دوراً إقليمياً هامشياً، بينما كانت البلاد كلها أمل مع بداية عهد بشار الأسد.