سقط نظام الأسد الذي جثم على أنفاس الشعب السوري مدة تجاوزت نصف قرن، مارس خلالها أقسى أنواع التنكيل والبطش والبشاعة، فالشعب السوري قدم تضحيات لم يقدمها شعب آخر عبر التاريخ للتخلص من الطغيان والاستبداد، عبر ثورة لعلها الأطول في تاريخ ثورات الشعوب، إذ استمرت نحو 14 عاماً راح خلالها أكثر من نصف مليون، وجرح واعتقل واختفى ضعفهم في الأقل، وتشرد وهاجر ونزح أكثر من 8 ملايين من السوريين، وتحولت البلاد بحواضر مدنها إلى خرائب ينعق فيها غراب البين، وتلفها أشباح القتلى والجرحى والمهجرين والنازحين، وخسائر اقتصادية هائلة لا يزال حصرها قيد الجمع والطرح والكساد والإفلاس.
بسقوط نظام الأسد فرح كل إنسان يتمنى الخير لأخيه الإنسان في سوريا، وفرح معظم العرب إلا من ارتبط بإيران، وانتشى الشعب السوري للمرة الأولى منذ عقود، وخرج ملايين السوريين يهتفون لشهدائهم وأهليهم ومعتقليهم ومهجريهم “حرية حرية”، و”واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.
بدأت سكرة النصر تتلاشى شيئاً فشيئاً، وتراجعت نشوة الانتصار على استحياء مفسحة الطريق للسؤال الملح الذي يتردد صداه في ذهن كل سوري وكل متابع وحريص على مستقبل سوريا: سوريا إلى أين؟
المتابع للمنتديات والحوارات، والقارئ للتحليلات والمقالات، والمتردد على الديوانيات، يخلص إلى قراءتين يتمحور حولهما استقراء الحال السورية المستقبلية، بين تفاؤل طوباوي مفرط يراهن على طبيعة الشعب السوري الخلاقة والمتسامحة والمتحضرة و”الشاغولة” (باللهجة الخليجية)، تفاؤل يتوقع ألا يعود السوريون لفرض ديكتاتورية مكان أخرى، ويدلل أصحاب هذه النظرية بالهدوء النسبي الذي أعقب هرب بشار الأسد “بليلة ما فيها قمرا”، ويقارنون ما جرى في سوريا بذاك الذي جرى في العراق بعد سقوط طاغية البعث العراقي صدام حسين، ففي العراق نهب العراقيون بلدهم وقتلوا بعضهم وسحلوا طوائفهم واجتثوا من اختلف معهم، ولا يزالون مستمرين في سياسات الإخفاء القسري والتعذيب والنهب والسلب لخيرات بلادهم.
إقرأ أيضا : نحو طلاق بائن بين إيكواس وتحالف دول الساحل
أما في سوريا كما يرى المتفائلون فقد أطلقت شعارات التسامح والتسامي والتعايش والتجاوز عن الماضي إلا مع من ثبت تورطه بجرائم حقبة الأسد، ويضيفون أن من سيطروا على سوريا حافظوا على الممتلكات العامة، وجلسوا مع آخر رئيس وزراء في حكومة الأسد وجرى تسليم انتقالي وسلس نسبياً لمؤسسات ووزارات الدولة للقادمين الجدد، ويصر أصحاب هذه النظرية على أن حوادث فردية حدثت ومستمرة في الحدوث، لكن الفوضى لم تتسيد الموقف بعد هرب بشار وانهيار نظامه وجيشه.
حدثني صديق سوري متفائل حد المثالية قائلاً “صدقني لم يقدم الشعب السوري كل هذه التضحيات كي تذهب سدى، ولن يخون من قدموا التضحيات من أجل حريته ويتركها تذهب هباء منثوراً”.
أما القراءة الثانية لما قد تؤول إليه الأوضاع في سوريا فهي قراءة متشائمة حد السواد اليائس البائس، ويدلل أصحابها على أن من وصلوا إلى الواجهة احتكروها وأزاحوا باكراً كل القوى السورية المعارضة الأخرى التي لا تقل تضحياتها عن تضحياتهم، كما أن من في الواجهة اليوم هم بالأمس القريب “قاعديون إرهابيون داعشيون”، فأنى لهم أن يتحولوا إلى ديمقراطيين متسامحين مع طوائف وأديان وأعراق سوريا المتنوعة بين عشية وضحاها؟
يعتقد أصحاب هذه النظرية أن “داعشيي سوريا” الذين هم في الواجهة اليوم “يتمسكنون حتى يتمكنون”، وسيطلقون تصريحات انفتاحية ديمقراطية يخجل منها فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، كما يرى أصحاب هذا الرأي المتشائم أن سوريا إن نجت من الاقتتال الداخلي المذهبي الديني والعرقي فإنها لن تنجو من تضارب الأجندات الإقليمية والغربية والإسرائيلية التي ستؤدي إلى تشظي البلاد وتقسيمها، قسم تركي وآخر كردي وعلوي ودرزي وسنّي وهكذا.
ويزيد المتشائمون بأن غياب المشروع العربي القوي، أو قل الحضور العربي الضعيف في سوريا لتتجاوز كبواتها وتضمد جراحها وتستقل بقرارها، سبب رئيس لهشاشة الوضع السوري والخوف من انزلاقه للهاوية، وذكرني المتشائمون بصديق عراقي عرفته منذ تسعينيات القرن الماضي حين كان من المعارضين لنظام صدام حسين، وهو يقول بلهجة عراقية بعد سقوط الطاغية بنحو 20 عاماً “كنا بصدام واحد صار عدنا 1000 صدام”.
سألني الأستاذ الأديب والمسرحي الكويتي الكبير عبدالعزيز السريع قبل يومين عن رأيي كمتابع أين تتجه الأمور في سوريا؟ وأجبته بأن من يجرؤ على إجابة واثقة لهذا السؤال اليوم، فإما أنه “يعلم الغيب” وهذا مستحيل، أو أنه “يضرب الودع” وهذا تنجيم.