سوار الذهب.. المشير الذي حقن دماء السودانيين
وسمح سوار الذهب بحركة سياسية واسعة ونجح أيضًا في كبح بعض الحركات التي كانت تحاول تعطيل مسيرة السودان في تلك الفترة، ووضع أهدافًا واضحة لم يقبل كسرها وهي الوحدة الوطنية بإجراء انتخابات ديمقراطية، ومعالجة أزمة الاقتصاد.
أيام قليلة حتى يكمل الصراع الدائر في السودان عامه الأول، مخلفًا أكثر من 12 ألف شخص قتلوا منذ بدء القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل من عام 2023، بجانب أكثر من 7 ملايين شخص تعرضوا للنزوح، ليصبح السودان صاحب أكبر أزمة نزوح في العالم.
عامٌ من القتل دفع السودان الذي كان يعاني في الأصل حتى قبل الصراع، إلى معاناة أكثر فداحة بعد الحرب، فالتقارير الصادرة مؤخرًا من كل المنظمات الأممية والدولية تؤكد أننا أمام كارثة إنسانية هي الأكبر، برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة حذّر قبل أيام أن الحرب في السودان تهدد بإثارة أكبر أزمة جوع في العالم.
بينما تؤكد لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الطفل أن 24 مليون طفل سوداني معرضون لخطر “كارثة عابرة للأجيال”، وأن حقوقهم في الحياة والبقاء والحماية والتعليم والصحة والتنمية جميعها قد انتهكت بشكل خطير في الصراع الذي يشهده البلد وكذلك نبهت إلى احتمال وفاة نحو 220 ألف طفل يعانون سوء التغذية الحاد.
السودان هو الأزمة الأكبر عربيًا وإقليميًا في الوقت الحالي، أزمة لم يصنعها عامل خارجي كما الحال في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إنسانية لا تتوقف، ولكن صنعت بأيدي سياسيي السودان أصحاب الخلفية العسكرية، الأول رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة بالسودان، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، والثاني قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو.
كثيرة هي مبادرات المصالحة والسلام التي عطلها البرهان ودقلو خلال الفترة الماضية، فلا أحد يرغب في تقديم أي تنازل، إمّا المكسب الكامل أو لا شيء غيره مهما تدهورت الأوضاع في السودان أو عانى أبناء وطنهم وأصبح مصيرهم جميعًا أم قتلى أو لاجئين في دول الجوار يعانون العنصرية والتمييز ينتظرون المنح الأممية للعيش على أقل مقومات الحياة.
لا يحتاج السودان في الوقت الحالي إلى شيء بقدر ما يحتاج إلى استعادة سيرة ومسيرة الرئيس السوداني السابق عبدالرحمن سوار الذهب، الزعيم العربي الوحيد الذي تنازل طوعًا عن السلطة مفضلًا مصلحة بلاده على أي مصلحة أخرى.
ولد سوار الذهب 1935م في أم درمان ولكن والده عاد بعد سنتين إلى الأبيض ليواصل نشاطه في نشر العلم وتحفيظ القرآن اللذين كان يشغلان أغلب وقته، وهناك تلقى عبدالرحمن سوار الذهب تعليمه الابتدائي والأوسط والثانوي، ليلتحق بعد ذلك بالكلية الحربية في الخرطوم وتخرج في عام 1955 قبل عام واحد من انفصال السودان عن مصر.
وتدرج سوار الذهب في مختلف الدرجات العسكرية المعتادة في القوات المسلحة السودانية، وفي أثناء محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 1971 على الرئيس النميري رفض سوار الذهب تسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية عندما كان قائدًا لها، وعلى الرغم من ذلك تم إبعاده بشكل تعسفي إلى دولة قطر.
وبعد العودة إلى السودان تولى قيادة الجيش هناك، في الوقت الذي كان الشارع السوادني يواجه فيه أزمة طاحنة على خلفية تظاهرات مستمرة ضد سياسات الرئيس جعفر النميري في ما يعرف بانتفاضة أبريل، وقرر سوار الذهب الانحياز إلى إرادة الشعب السوداني.
وتولى سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ورقي لرتبة المشير وتعهد بعد تسلمه السلطة بأن يتخلى عنها خلال عام واحد، وبالفعل بعد عام قام بتسليم السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الصادق المهدي.
وفي مرة من المرات سأل أحد الصحفيين سوار الذهب هل التزمت بوعدك للسودان وأهله؟ ليرد قائلا: “أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يومًا فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، فسلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة الجديدة لرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبت”.
وفي الفترة التي تولى فيها قيادة السودان قام بإصلاحات فارقة على رأسها حل الجهاز الأمني سيئ السمعة في ذلك الوقت، واعتقل أيضًا شخصيات تورطت في انتهاكات خلال فترة حكم النميري، واستغل أيضًا علاقاته الواسعة بزعماء العالم العربي ليحصل للسودان على مكاسب اقتصادية سريعة استهدفت الحد من الأزمة الاقتصادية التي سببها نظام النميري.
وسمح سوار الذهب بحركة سياسية واسعة ونجح أيضًا في كبح بعض الحركات التي كانت تحاول تعطيل مسيرة السودان في تلك الفترة، ووضع أهدافًا واضحة لم يقبل كسرها وهي الوحدة الوطنية بإجراء انتخابات ديمقراطية، ومعالجة أزمة الاقتصاد.
وبعد تسليم السلطة قرر اعتزال العمل السياسي، ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية من خلال منظمة الدعوة الإسلامية كأمين عام لمجلس الأمناء، وفي عام 2004 فاز بجائزة الملك فيصل العالمية المخصصة لمن قدم خدمات جليلة للدين الإسلامي.
ورغم الصورة البطولية التي يرسمها البعض لسوار الذهب فإن أمرًا ظل غامضًا حول موقفه من الحركات الإسلامية في السودان، وعلى رأسها جماعة الإخوان، وتسهيل وصولهم للسلطة، وحول تنسيقه مع الحركات الإسلامية في السودان قبل بيانه الشهير، وكذلك عن محاولات التوسط بعد إطاحة المصريين بالإخوان من سدة الحكم.
ولكن في هذا الوقت الصعب من تاريخ السودان يفرض سوار الذهب نفسه على بعض السودانيين للمقارنة بين قراره التنحي لحقن دماء الشعب السوداني وقرار الجنرالين اللذين يقودان حرباً شعواء وقودها أبناء الشعب الواحد.
وفي أكتوبر 2018 توفي سوار الذهب بالمستشفى العسكري بالعاصمة السعودية الرياض، عن عمر ناهز الـ83 عامًا.