تبدو العبارة المفتاح في خطاب سعد الحريري في ذكرى مرور عشرين عاما على اغتيال والده الإعلان عن “عودة تيار المستقبل” إلى العمل السياسي. كيف سيكون شكل هذه العودة الصادرة عن الزعيم السنّي الأبرز في لبنان الذي أكّد مجددا أنّ لا تخلي عن مشروع رفيق الحريري المعروف من اغتاله والذي تبيّن، إلى إشعار آخر، أن لا بديل منه؟ إنّه المشروع المرتبط بثقافة الحياة التي هي ثقافة الشعب اللبناني قبل أي شيء آخر.
الحقيقة البسيطة التي أثبتها اللبنانيون في الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري في بيروت، التي أعاد الحياة إليها، أن هذا المشروع لا يزال هو المستقبل الوحيد المنطقي الذي يجمع عليه اللبنانيون الطبيعيون. هؤلاء اللبنانيون الذين راهن عليهم رفيق الحريري وما زال يراهن عليهم سعد الحريري الذي مرّ في تجارب مؤلمة وقاسية، بينها تجربة عهد ميشال عون – جبران باسيل الذي لم يكن سوى عهد “حزب الله” وعهد وضع اليد الإيرانيّة على لبنان. لا يدلّ على ذلك أكثر من قطع ميشال عون، رئيس الجمهورية في 2020، الطريق على تحقيق دولي في جريمة تفجير مرفأ بيروت. فعل ذلك بغية التغطية على الجهة المعروفة التي خزّنت كميات الأمونيوم في أحد عنابره طوال سنوات.
تغير كل شيء في لبنان والمنطقة. سقط نظام بشار الأسد الذي لم تكن له فكرة عن السياسة إلا محاربة رفيق الحريري، ومحاولة إخضاع لبنان، وإنهاء ما تمثله بيروت التي هي النقيض التام للأسدية السياسية. تورط “حزب الله”، ومن خلفه “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، وورط لبنان بحرب مجنونة قضت على قيادته بشكل شبه تام ودمرت الجنوب والبقاعين الشرقي والغربي، بما في ذلك بعلبك والهرمل إضافة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، على نحو غير مسبوق. وفي الأثناء يقف أهل غزة أمام مفترق طرق يهدد وجودهم في القطاع كما يهدد مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني. هذه هي نتائج أوهام الاستقواء ومغامرات القوة التي يُبحث الآن عن معالجتها في ثنايا مشروع رفيق الحريري.
لم يسع رفيق الحريري إلا خلف المصالحة والسلم الأهلي والتفاهم وإعادة الإعمار ولم يقابل إلا بالتواطؤ والتهجم والطعن، ليعود الجميع اليوم إلى مشروعه.
هذه حقائق بسيطة هزمت كل الكلام المعقد والمتذاكي لما يسمّى “محور الممانعة” الذي لا هدف له سوى خدمة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة على حساب كلّ ما هو عربي فيها.
قبل أيام لم تمنح الحكومة اللبنانية طائرة إيرانية الإذن بالهبوط في مطار بيروت. جن جنون بعض الفتية الذين يعيشون حالة إنكار صعبة بعد الضربات القاسية التي تعرض لها “حزب الله”. هؤلاء أنفسهم لم يقطعوا الطرقات حين منعت طائرات إيرانية من الهبوط سابقاً، في ظل حكومة يشغل فيها ممثل لـ“حزب الله” وزارة الأشغال. حسناً فعل الجيش اللبناني في التعامل الحاسم مع مسرحيات الاستقواء. ولو قيض قياس ردة فعل اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي لتبين أن حجم التأييد لمنع الطائرة الإيرانية من الهبوط هو أهم استفتاء على خيارات اللبنانيين.
إقرأ أيضا : لبنان بين البراغماتيّة والإصلاح الضروري: سباق مع الزمن قبل انتخابات 2026
توجد أسئلة كثيرة ستطرح نفسها في ضوء خطاب سعد الحريري. تتعلّق هذه الأسئلة بمن سيكون في الواجهة في مرحلة سيعدّ “تيار المستقبل” نفسه فيها للانتخابات النيابيّة المقرّرة في السنة 2026 والتي يتوقع أن تشرف عليها حكومة نواف سلام التي تتميّز بأمور عدة. لعلّ أبرز هذه الأمور رفع مستوى التمثيل الحكومي المسيحي بعد سنوات طويلة من القحط والجهل والسطحيّة والتبعية. كان مطلوبا في تلك السنوات، خصوصا في “عهد حزب الله” أن يكون المسيحي على شكل ميشال عون وجبران باسيل، لا مهمة له سوى توفير غطاء لـ“حزب الله” وسلاحه من جهة والسعي إلى التقرب من بشّار الأسد ونظامه العلوي واسترضائهما من جهة أخرى.
في الذكرى العشرين لغياب رفيق الحريري، ثمة جانب لا يمكن تجاهله مع عودة سعد الحريري إلى بيروت وإلقاء خطابه من وسط المدينة التي ترمز إلى الرغبة في جعل ثقافة الحياة تنتصر على ثقافة الموت. يتمثل هذا الجانب في فشل المحاولة التي قامت بها “الجمهوريّة الإسلاميّة” من أجل تغيير طبيعة لبنان وقطع العلاقة بينه وبين عمقه العربي. كان خطاب سعد الحريري خطابا ذا بعد عربي بامتياز. كان تأكيدا لواقع أنّ مشروع رفيق الحريري لا يمكن فصله عن العمق العربي للبنان. سيكون لبنان في حاجة إلى هذا العمق بعدما لعب وزراء من “التيار العوني” على رأسهم جبران باسيل دورا في تحويل لبنان حصان طروادة إيرانيا في مجلس جامعة الدول العربيّة.
مع العهد الجديد الذي بدأ بانتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية ومع تمكن نواف سلام من تشكيل حكومة أكثر من معقولة، في معظمها، حكومة من دون ثلث معطّل لا تستخف بذكاء اللبنانيين، بات في الإمكان الإعلان عن محاولة جديدة لإعادة لبنان إلى خريطة الشرق الأوسط والمنطقة. مثل هذه العودة من ثوابت المشروع الذي سعى رفيق الحريري إلى تنفيذه وكان بين الأسباب التي دفعت إيران إلى التخلص منه عبر أداتها المسماة “حزب الله” وبغطاء من النظام السوري المخلوع.
الأكيد أن ذلك لا يمكن أن يتحقّق من دون التعاطي مع الواقع الذي يفرض نفسه على الأرض. يبدأ ذلك بالاعتراف بالكارثتين اللتين تسبب بهما “طوفان الأقصى” في غزّة و“حرب إسناد غزّة” في لبنان والانطلاق منهما. مارست إسرائيل كلّ أنواع الوحشية بعدما أوجدت لها “حماس” كل المبررات وبعدما أوجد لها “حزب الله” كلّ الأسباب التي مكنتها من هدم قرى في جنوب لبنان وتهجير أهلها.
عاد سعد الحريري إلى بيروت في ظروف إقليميّة جديدة مختلفة. كيف يستطيع جعل مشروع رفيق الحريري ينتصر مجددا، وإن بصيغة جديدة، بعدما تبيّن أن لا بديل له بالنسبة إلى لبنان؟