لقد نجح كير ستارمر في إنجاز الجزء الأول من مهمته إعادة وصل “ما انقطع” من العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي وذلك خلال قمة “المجلس السياسي الأوروبي” European Political Community في قصر بلينهايم.
لقد أقنع رئيس الوزراء أكثر من أربعين زعيماً أوروبياً بأنه جاد فعلياً بشأن تغيير العلاقة [مع الاتحاد الأوروبي]. لقد نجح في كسب ثقتهم من خلال وعدهم عدم القيام بشيء لم يكن حزب العمال ليفعله على الإطلاق: وهو الانسحاب من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان European Convention on Human Rights. لكن ذلك كان علامة فارقة واضحة مع نهج “المواجهة” التي اتبعته حكومات المحافظين تجاه الاتحاد الأوروبي، وقد نجح. “لقد كانت لحظة مهمة” بحسب تعبير أحد الدبلوماسيين الأوروبيين.
إذاً، ها هو ستارمر يبرهن عن براعته في التشبيك الدبلوماسي، وقد أيقن بأن المسألة تتطلب تعايشاً مع شركاء غريبي الأطوار. فمع تشتت تركيز كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز بسبب الأوضاع الداخلية في بلديهما، تمكن ستارمر من التقرب من رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، الزعيمة الشعبوية الإيطالية، حيث عمل على تطوير العلاقة معها، والتي كان بدأها ريشي سوناك.
الحليف الرئيس الآخر في عملية “إعادة إطلاق العلاقات” ستكون رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والتي لم تكن حاضرة في قصر بلينهايم، لانشغالها في عملية إعادة انتخابها.
وكان ستارمر أعلم ميلوني أنه أجرى “مناقشات صعبة” مع أعضاء حزبه تتعلق بموضوع الهجرة غير الشرعية. وهو نجح في استقطاب العناوين التي أراد عبرها تصوير نفسه “قاسياً في تعاطيه مع موضوع الهجرة” من خلال إبداء انفتاحه على إيجاد صيغة شبيهة بالخطة الإيطالية التي ستعمل على البت بطلبات اللجوء إلى أراضيها، في دولة ألبانيا المجاورة.
وتعتبر 15 دولة في الاتحاد الأوروبي استخدام دولة ثالثة حلاً ممكناً لأزمة الهجرة [غير الشرعية] التي يعاني منها الاتحاد، وستارمر مستعد لمجاراة البقية في اللجوء إلى حل مماثل. ويصر مساعدوه على أنها ليست مثل خطة رواندا التي فقدت مصداقيتها وألغيت الآن؛ ولن يمضي العمال قدماً في المعالجة الخارجية إلا إذا كان ذلك رادعاً، وفعالاً من حيث التكلفة، ويتوافى مع القانون الدولي.
ويبدو مستبعداً أن تعتمد المملكة المتحدة خطة مماثلة، لكن إبقاء الباب مفتوحاً حيالها، يسمح ببقاء ستارمر على طاولة المناقشات الأوروبية، ويعطي الانطباع بأن هناك حركة في الملف ريثما يعمل حزب العمال على وضع خطة لوقف القوارب.
لكن تحقيق نغمة جديدة كان الأمر السهل بالنسبة لستارمر. وستكون المرحلة الثانية، السياسة التفصيلية، أكثر صعوبة بكثير. وقد اعترف في مؤتمره الصحافي بعد القمة قائلاً: “إننا نتفهم التحدي والقيود التي تفرضها أي مناقشة”. وذلك لأن حزب العمال استبعد العودة إلى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي، إلى جانب حرية الحركة.
باتريك دايموند، وهو مستشار سابق لكل من رئيسي الوزراء توني بلير، وغوردون براون، وأستاذ في السياسات العامة في كلية كوين ماري في جامعة لندن، قال لي: “كما هي العادة، إن مشكلة الاتحاد الأوروبي هي مع رغبة الجانب البريطاني اختيار ما يناسبه من سياسات [وترك البقية التي لا تناسبه]. إن التحدي بالنسبة إلى كير ستارمر هي أن كل من الحكومتين الفرنسية والألمانية تعانيان من ضعف سياسي، وهو ما من شأنه أن يعرقل إحراز أي تقدم في هذا المجال”.
وأضاف “الرئيس ماكرون سيكافح لتحقيق أي إنجازات تذكر في الفترة المتبقية من عهده الرئاسي. وقد يكون هناك مجال للتوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتعلق بإعادة [طالبي اللجوء]، ولكن المفاوضات ستستغرق بعض الوقت. سيركز ستارمر في البداية على فرض إجراءات قاسية للسيطرة على الحدود، والعمل على إحباط نشاطات عصابات مهربي البشر، من خلال العمل المشترك مع الجانب الفرنسي”.
قبل الانتخابات، اقترح بعض المطلعين على كواليس حزب العمال أنه قد يكون مستعداً لقبول بعض المهاجرين من الاتحاد الأوروبي كجزء من صفقة أوروبية شاملة لإعادة المهاجرين. قد يكون الوزراء العماليون لا يزالون مستعدين لقبول أفراد عائلات بعض المهاجرين من الاتحاد الأوروبي الموجودين بالفعل في المملكة المتحدة، لكنهم أكثر تردداً الآن بشأن قبول كوتا من الاتحاد الأوروبي.
لماذا؟ لأن حزب نايجل فاراج “ريفورم” (إصلاح المملكة المتحدة) حل ثانياً بعد حزب العمال في 89 مقعداً. ويرى أعضاء كبار في حزب العمال بأن حزب “ريفورم” من شأنه أن يطرح تهديداً في انتخابات عام 2029 المقبلة، لأنه سيستهدف المؤسسة الحاكمة في حزب العمال ويتجاوز قضايا الاتحاد الأوروبي والهجرة والاقتصاد كي يجذب الناخبين الذين يشعرون بالتهميش من قبل النظام السياسي.
ومع الإطاحة بالأحزاب الحاكمة وزعمائها حول العالم، سيسعى حزب العمال إلى تفادي ذلك المصير من خلال خوض الانتخابات المقبلة بوصفه حزباً متمرداً. وذلك ربما هو التصرف الحكيم – لكن من الصعب القيام به أثناء الوجود في السلطة.
ويريد ستارمر إقامة روابط تجارية أوثق مع الاتحاد الأوروبي لتعزيز النمو الاقتصادي. “لدينا تفويض لإنجاز ذلك بناءً على نتائج الانتخابات العامة الأخيرة”، بحسب ما يقوله حليف قريب من حزب العمال على رغم أن الحزب لم يذكر سوى القليل عن الاتحاد الأوروبي خلال الحملة الانتخابية.
إذاً، إن عرض ستارمر المبدئي سيكون عبارة عن صفقة أمنية واسعة، تعمل على احتواء جوانب مرغوبة من قبل المملكة المتحدة، أي مجالي الاستخبارات والدفاع. وفي ما يتعلق بالتجارة، ستعطي المملكة المتحدة الأولوية للتوصل إلى اتفاق بشأن الأغذية الزراعية، فيما سيرغب الاتحاد الأوروبي في الحصول على منح حق التحرك بحرية للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة، والتي – على رغم رفض حزب العمال لها قبل الانتخابات – يمكن أن تشكل جزءاً من إعادة إطلاق العلاقات.
وسيتحتم على رئيس الوزراء كير ستارمر “إقناع” الناخبين البريطانيين برؤيته، وأيضاً الاتحاد الأوروبي. إن “عامل فاراج” الجديد سيجعل عملية الإقناع أصعب. إن كلاً من حزبي “ريفورم” والمحافظين سيتهمان حزب العمال في التخطيط لإعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (ذلك غير صحيح، ولكن بعضاً من تلك الأكاذيب قد تعلق في الأذهان).
على ستارمر أن يتذكر بأنه لو كان لديه ميل غريزي للاتحاد الأوروبي، فإن ذلك لم يكن مجدياً كثيراً بالنسبة لـبلير، الذي كان أقنع الاتحاد الأوروبي بجدوى عضوية المملكة المتحدة، تماماً كما فعل ستارمر يوم الخميس الماضي، ولكنه لم يقم بإقناع الناخبين البريطانيين [بجدوى البقاء] بالاتحاد الأوروبي، والمحصلة كانت التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” عام 2016.
لكن لربما يمتلك ستارمر بطاقة جوكر رابحة كان بلير يفتقر إليها – إنه دونالد ترمب.
إذا عاد ترمب رئيساً، كما يتوقع أغلب الساسة في المملكة المتحدة الآن، فإن المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية ستتبادلان العبارات المبتذلة المعتادة حول العلاقة الخاصة بين الطرفين. ولكن الرأي العام البريطاني قد يدرك أنه بوجود دولة خطيرة مثل روسيا على حدود أوروبا، وقيام ترمب بتقليل الدعم لحلف الأطلسي، فإن العلاقة الخاصة التي تصب في مصلحة بريطانيا الوطنية هي تلك التي نقيمها مع الاتحاد الأوروبي.