منذ تحولت المسألة السورية من ثورة تستهدف التغيير السياسي الكلي لنظام الحكم القائم واسترداد الدولة ومؤسساتها من هيمنته المطلقة، إلى عقدة دولية متعددة المحاور والتشابكات، لم تعد إمكانية حلها، سواء كلياً أو جزئياً، بيد السوريين بشكل عام.
وفي خضم ذلك بات مستوى تأثير الدول الضالعة في الملف السوري وتقاسم النفوذ فيها هو الأوضح والأقدر على إدارة ملفاته! وبالنتيجة، أدى لتفارق السوريين في رؤيتهم للحل الممكن بين من يركن بشكل مطلق لعدمية وجود حلول لها إلا بقرار دولي، وبين من يصر على شرعية ثوريته الأولى متناسياً كل متغيرات المشهد السوري. ولطالما شكلت هذه المسألة مستويين متخارجين في طرق الحل السياسي الممكنة لدرجة الصراع الحاد والبيّن. فهل نتوقف أم ماذا نفعل؟
السؤال البديهي هنا، هل يمكن المتابعة في سياق المسألة السورية بذات الأدوات التي لم تنتج أو تتقدم بخطوة في الحل فيها سياسيًا أو عسكريًا لسنوات مضت؟ وهل يمكن التفريط بحقوق السوريين المهجرين والمعتقلين والضحايا، ومن كل الأطراف، بأية حلول جزافية دون التحول الديمقراطي والتغيير السياسي السوري كحل جذري؟ سؤال وزنه وزن المسؤولية التاريخية، وحمله الأثقل والأكثر إلحاحًا هو القدرة على الإجابة اللحظية والخيار بين أن تكون جزءًا من الحل أم الأزمة والاستعصاء السياسي واستمرار الكارثة السورية لما لا تحمد عقباه.
في المبدأ، تبدو سوريا مقسمة حسب مواقع النفوذ لأربع مناطق، منها ثلاث تكاد تكون محسومة قوى السيطرة فيها بقوى الأمر الواقع المحلية وبدعم خارجي مختلف: شمال غرب، وشمال شرق، والوسط والساحل، فيما المنطقة الرابعة وهي الجنوبية تكاد لا تنطبق عليها معايير أي من المناطق الثلاث كاملة. فاذا ما وقفنا على نقاط الاختلاف والتشابه بين هذه المواقع محتكمين لمستويي المسألة السورية بين كونها محلية بحدها الأدنى ودولية بحدودها العليا فيمكن وضع بعض الدلالات:
– لا استقرار في أي منطقة من المناطق الأربع يؤهل إحداها لتكون مستقلة سياسيًا.
– مناطق النفوذ الأساسية الثلاث قابلة للتغيير بحكم صفقات الدول الكبرى، فأستانا وخطوط تماساتها من جهة، وأميركيًا ومصالحها مع تركيا من جهة أخرى كفيلة بتغيير جزئي أو كلي في معادلاتها. فيما كل من روسيا وإيران تمارسان سياسات النهب والهيمنة بالبيع والشراء في الثالثة.
– قواعد الجيوبوليتيك المهيمنة عالميًا وانعكاساتها سوريًا تحدد إمكانية تغيير المتحالفين بشكل تكتيكي حسب مساحة المصلحة بينهما على أرضية تجنب الصدام المباشر بين القوى الكبرى دوليًا وإقليميًا.
– اللاعب الخفي الذي يناور بين جميع الأطراف هي إيران، فهي المستفيدة من الهيمنة الروسية في الداخل، ومن تضارب المصالح الروسية التركية في شمال غربي سوريا، ومن تضارب المصالح الأميركية والروسية والتركية في شرق الفرات. ومع هذا ثمة مؤشرات عدة بإمكانية إيجاد تفاهم مصلحي بين روسيا وأميركا على تقليص فاعليتها بالملف السوري خاصة في الجنوب وعلى بوابة الشرق السورية في البوكمال.
– فيما تركز إسرائيل والأردن على استيعاب المنطقة الجنوبية تحت عنوان وضع التوازن القلق دون السماح لقوة منفردة التحكم بها، وهذه لليوم تبدو أجندة لم تُحسم بعد، وقد تتطلب تغييرا في مضمون اتفاقات عمان الثلاثية بين روسيا وأميركا والأردن عام 2017 والقدس بين إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا عام 2018.
– الخلاف الحاد بين القوى المحلية التي تحكم كل منطقة، سواء كانت السورية في شرق الفرات وشمال غربي سوريا، وكلاهما مع قوى النظام في الداخل، وكل قوة منها رهينة مؤشرات ضامنها وحاميها من قوى السيطرة الدولية.
وفق لهذا يتضح لأي سياق تحليلي موضوعي للحالة السورية الراهنة، يأخذ بالخلاصات ونتائجها ولا يغرق في تفاصيل “وليد المعلم”، أن يدرك أن قوى السيطرة السورية المحلية هي:
– ليست ذات إرادة مستقلة في قراراتها.
– تحافظ على مصالحها المحلية والذاتية بحماية خارجية.
– غير قادرة على التخلي عن مكتسباتها الراهنة بالاستقرار النسبي وإن كان قلقًا.
– تستمر في تقديم التنازلات المتتالية السياسية لصالح مرجعيتها الدولية؛ وبالضرورة باتت جميعها جزءا من الاستعصاء في الحل السوري المفترض، وجميعها لا تملك مقوماته بالحد الأدنى.
فإذا ما أضفنا أن النظام السوري، ومن خلفه إيران، هي المستفيدة من هذا التباين بين هذه القوى المحلية والمدعومة خارجيًا، عندها يمكن وصف قوى الأمر الباقية سواء شرق الفرات أو شمالي سوريا بمحددات هامة:
– لا يمكن أي منها ادعاء أنها تمثل كل السوريين.
– تفتقد لنقاط القوة في إمكانية تطبيق الحل الكلي بالتغيير السياسي.
– تدرك ضعف قدراتها الذاتية على مواجهة أي طرف من أطراف الصراع الدولية الأخرى.
– لا تسعى للتكامل السوري وحل خلافتها البينية.
– هي قوى غير مبادرة تتنازعها فرضيتا الركون للحل الدولي من جهة والشرعية الثورية المفرطة في هيمنة قوة وحيدة من جهة أخرى، ما يسبب المزيد من الاستعصاء في سياق المسألة السورية وطرق حلها، جزئيًا أو دوليًا.
الأمر الذي يقود التحليل لسؤال مباشر: كيف ومتى يمكن لهذه القوى أن تكون جزءًا من الحل السوري؟
فالسوريون اليوم في أزمة وجود حقيقة، جذرها الهوية الوطنية التي تعبث بها شتى صنوف الاعتداءات التاريخية والسياسية من تغير ديموغرافي ممنهج، وعبث في حاضره ومستقبله، مع تغول سياسة الأمر الواقع العنفية بشتى صنوف العمل العسكري والأمني المحلي والمحمول على قوى إقليمية ودولية، حتى باتت الساحة السورية محطة تصفية خلافات دولية كبرى بين المحورين الروسي/الأوراسالي والناتو الغربي، وما دونها من مشاريع تطييف دينية بين محور “المقاومة” و”الممانعة” الإيراني المنكشف زيفه التاريخي، في مقابل مخططات الشرق الأوسط الإسرائيلية. وتتداخل بين هذه الوصفات باقي الدول من تركيا لدول الخليج العربي في موقعة كبرى؛ وجميعها على حساب الوطنية السورية ومشروع دولتها الممكن.
إن الإجابة عن أسئلة ومعطيات الوضع السوري لا تعني افتراض حلول سحرية ولا إلهام سماوي منزل، ولا هي مسلمة فكرية جاهزة للتطبيق المباشر. بل تعني إمكانية تجاوز المحددات الموضوعية للمتغيرات الدولية وعبثها في المسألة السورية، وتحديد المصلحة السورية وفق تقاطع المصالح الدولية العاملة فيها وتضاربها بذات الوقت، والتمَيز الفعلي بين نقاط قوتها ونقاط ضعفها. الأمر الذي يتطلب تخلي قوى الأمر والسيطرة الراهنة عن مكاسبها الضيقة، والعمل على إجراء تفاهمات مرحلية ذات أبعاد استراتيجية في الحل السوري عنوانها: تغيير كامل بنية النظام والحكم القائم هو مصلحة عامة لكل السوريين، وليس فقط، بل يشكل حالة استقرار متوازنة لكل الدول الضالعة في الملف السوري تستبعد تنافسها الحاد البيني وتتفق جميعها على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا. ما يعني بالضرورة إجابتها الفعلية على نوع تلك المبادرات باتجاه تفعيل الشراكة في الحل أم الاستمرار في الكارثة؟ فيما يمكن للمنطقة الجنوبية بمتحركها السلمي بمظاهرات السويداء وما يمكن أن يتجاوب معها من مظاهرات الشمال السوري ضد قوى الأمر الواقع فيها، أن تلعب دورًا محوريًا في ذلك إذا ما ترجمت أجوبة الأسئلة لخطط سياسية قابلة للتنفيذ، وهذا موضع ومقال آخر يمكن تحديد معطياته وإمكانياته.