بدت زيارة عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها إلى القاهرة أخيرا غير عادية، حيث حضر مؤتمرا حول الهجرة بمقر الجامعة العربية، ثم التقى رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي بعد فترة من القطيعة بينهما جرى التأكيد فيها على أن حكومته فقدت شرعيتها القانونية، ما أوحى أن الهدف من الزيارة ليس حضور المؤتمر، لكن ترتيب هذا اللقاء وجدول أعماله، والذي أراد منه الرجل الإيحاء بأنه غير معزول بصورة سياسية، والمياه عادت إلى مجاريها مع القاهرة.
قد يكون هذا الانطباع صحيحا لدى بعض الليبيين، لكنه لا يعني أن مصر بدلت موقفها من حكومة الدبيبة وأصبحت تعترف بها وسحبت موقفها الرافض لاستمرارها، أو أنها غيّرت موقفها من خصومه في شرق ليبيا.
كل ما حصل من تغير يكمن في البعد الاقتصادي الحيوي، والذي ربما تكون له مردودات سياسية خفية، لكنها ليست الدافع الحقيقي لعقد لقاء بينه ورئيس الحكومة المصرية في الوقت الراهن، والذي انصب الحديث فيه علنا حول مشروعات تنموية وتفعيل لجان اقتصادية مشتركة، ولم يتم التطرق لأي أبعاد أخرى تقريبا.
عاد عبدالحميد الدبيبة إلى مصر من الباب الاقتصادي الكبير، الذي يعلم مدى أهميته لدى قيادتها حاليا، وحاجتها للحصول سريعا على كميات عاجلة من الغاز لتخفيف الضغوط الشعبية التي تتعرض لها الحكومة المصرية بسبب انقطاع الكهرباء لشح في الغاز، وهو ما وعد الدبيبة بإمكانية توفيره قريبا، كما أن غالبية أنحاء ليبيا تتم إضاءتها عبر خطوط لتوريد الكهرباء المصرية، من الشرق إلى الغرب، وعجز الغاز في مصر قد يؤثر على إنارة مناطق عديدة في ليبيا.
فهم رئيس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها التطلعات والطموحات المصرية نحو زيادة وتيرة الاستثمارات في بلاده ولم يقم بعرقلة الكثير من المشروعات الفترة الماضية، وقام بتسهيلها لتتمكن من التموضع في طرابلس وغرب ليبيا، ولا تقتصر على شرقها، وهو ما تريده القاهرة لتؤكد أن علاقتها ممتدة بطول ليبيا وعرضها، ولا تقتصر على فريق سياسي معين، مستفيدة من التوسع في انفتاحها على غالبية القوى، كي تتمكن من التأثير بشكل أكبر عندما يحين الوقت لتفكيك التعقيدات الأمنية في الأزمة الليبية.
واضح الآن بالنسبة إلى القاهرة أن خطوتها بشأن عدم الاعتراف بالدبيبة لم تؤد إلى الهدف منها، في مجال إجراء انتخابات عامة أو تعيين رئيس حكومة جديد ترتاح له سياسيا، ومضى نحو عامين ولا يزال الدبيبة مستمرا على رأس الحكومة في طرابلس، ويحظى باعتراف قوى إقليمية ودولية، ولم يحقق التحرك المصري في أحد اجتماعات الجامعة العربية الغرض منه في عزل حكومة الدبيبة التي نجحت مراوغاتها في الحفاظ على جزء معتبر من علاقاتها داخليا وخارجيا، والتمسك بمفاصل اقتصادية عدة، تساعدها على المنح والمنع في المشروعات التي تعتزم القيام بها أي دولة في ليبيا.
يبدو أن واقعية مصر وقدرتها على التأقلم مع الأزمات الإقليمية قادتاها إلى إعادة النظر في العلاقة مع الدبيبة، وخرجتا من إطار الكواليس التي خيمت عليها الأشهر الماضية، وشهدت مناورات اقتصادية غير مباشرة من الجانبين، حيث تملك مصر مفاتيح مهمة ممثلة في ملف الاستثمارات الليبية داخل أراضيها، وتصل إلى حوالي ثلاثين مليار دولار متوارثة منذ عهد العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، تتنافس على تبعيتها حكومتا الشرق والغرب.
يحقق التركيز على الشق الاقتصادي، مصالح نوعية للطرفين، وهي مفهومة لدى الكثير من القوى الليبية التي تتطلع للاستفادة من الخبرات المصرية، ولا يمثل حساسية سياسية كبيرة للقاهرة تجعل البعض يلوح إلى أنها قامت بتغيير موقفها من حكومة الدبيبة. فالكثير من الجهات في العالم، من الدول والشعوب، تقيم علاقات اقتصادية في خضم الخلافات السياسية، ما جعل لقاء مدبولي مع الدبيبة يركز على التباحث في مشروعات واستثمارات متعددة فقط.
يعلم المتابعون لعلاقات مصر مع كل من تركيا وقطر أنها لم تتأثر اقتصاديا بالخلافات السياسية معهما، ربما لم تتزايد الاستثمارات، لكنها لم تتراجع إلى المستوى الذي يتناسب مع حدة الأزمة وقتها، وحافظت الدول الثلاث على درجة دافئة من الحرارة الاقتصادية، لأن هناك مشروعات متشابكة يصعب الخروج منها، ومصالح كبيرة تؤدي التضحية بها إلى خسارة فادحة، خاصة أن جزءا كبيرا من الاستثمارات للأفراد وليس للدول، وتغيرات السياسة لن تتوقف حركتها، وهو ما حدث بالفعل، حيث عادت العلاقات بين الدول الثلاث الفترة الماضية.
لعبت الأزمة الاقتصادية الحادة دورا في الاستدارة المصرية نحو الدبيبة، استثمرها بذكاء وأدارها بحنكة وهو يعلم ما تمثله بلاده لمصر، والعكس صحيح، فهناك ارتباطات اجتماعية عميقة يصعب أن تؤثر فيها تباينات السياسة، الأمر الذي ظهرت تجلياته على مدار العقود الماضية، قبل وبعد الثورة على القذافي، وأسهم البعد الاقتصادي بدور مُعتبر في توطيدها.
بدأت العلاقات الاقتصادية تخرج من إطارها التقليدي ممثلا بشكل رئيسي في إيفاد مئات الآلاف من العمالة المصرية وصادرات السلع الغذائية ومواد البناء، وأخذت اتجاها يركز على وجود شركات خاصة مصرية تسهم في عملية إعادة الإعمار، شقت طريقها في ليبيا بثبات مؤخرا، قبل أن تجد نفسها أمام واقع اقتصادي يمكن أن تسيطر عليه تركيا وغيرها من الدول التي تهتم بالاستثمارات أكثر من السياسة والأمن.
أسفر انسداد الأزمة الليبية وعدم وجود أفق ظاهر لتسويتها واستمرار التشتت بين القوى المحلية وغياب الإرادة من جانب المجتمع الدولي عن اقتناع القاهرة بأن انتظار الحصول على حل سريع لها من قبيل الأمل بعيد المنال، وأن منح أولوية للجوانب الاقتصادية له نتائج إيجابية، يمكن الاستفادة منها عندما يحين وقت التسوية الحقيقية. فخلق روابط جيدة من المصالح الاقتصادية يوفر بيئة مناسبة لبعض التحركات السياسية مستقبلا، ويجعل لمصر تأثيرا مضاعفا في الكثير من التفاعلات التي يمكن أن تشهدها ليبيا، إذا حان زمن التسوية، وقبل المجتمع الدولي التباحث بجدية حولها.
تشير هذه المعطيات إلى عدم تغيير الموقف المصري من عبدالحميد الدبيبة سياسيا حتى الآن، غير أن حصيلة تطوير العلاقات الاقتصادية مع حكومته وزيادة الاستثمارات وعدم حصرها في ما هو قائم منذ اندلاع الخلاف يقود حتما إلى تغير، فالجمود قد يكون مفهوما عند تباعد المسافات في المحدد السياسي، إلا أن التوسع في التعاون الاقتصادي ليس كذلك، إذ يكشف عن تحسن غير معلن، تظهر ملامحه تدريجيا، لأن النقطة التي جاء منها الخلاف لم تكن عادية (عدم الاعتراف بحكومة الدبيبة)، ويصعب علاجها من خلال التعامل بالصدمة السياسية.